عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
سبق أن ذكرتُ أن السؤال عن «وجهة الإسلام» كان قد طرحه هاملتون غب، المستشرق البريطاني في ثلاثينيات القرن الماضي. وقد شغله وقتها اتجاه المسلمين بشبه القارّة الهندية إلى الانفصال عن الهند، وإقامة كيان خاص بهم رغم مساعي غاندي الحثيثة لإبقائهم في «حزب المؤتمر الهندي». وقد اعتبر «غب» يومَها أن هذا التوجه له دلالات فيما يتعلق برؤى المسلمين المستجدة للعيش مع الآخر. فقد ذهبت «الرابطة الإسلامية» إلى اعتبار الإسلام هويةً دينية وثقافية وسياسية. وبالفعل فإن الدين الإسلامي اعتُبر فيما بعد الدين الرسمي لدولة باكستان الجديدة. وظلت التجربة الباكستانية ملأى بالمصاعب والعقبات عبر تاريخها الحديث والحاضر كله. فبمساعدة الهند في مطلع سبعينيات القرن الماضي، قام البنجاليون، فيما كان يُعرفُ بباكستان الشرقية، بالانفصال عن باكستان الغربية، وأقاموا دولة بنجلاديش. ومع أن الدولتين ظلتا على اضطراب شديد منذ ذلك الحين؛ فإن دولة باكستان (الغربية) هي التي تعاني داخلياً من الأصوليات الدينية المتشددة (حركة «طالبان» باكستان). وهكذا فإن الانفصال الباكستاني عن الهند، ما أنهى حالة الانقسام، بل انتقل للدواخل الباكستانية، ولا يزال معششاً فيها في صورة توترات إثنية ودينية وسياسية.
على أن فشل التجربة الباكستانية، باعتبار الإسلام ديناً قومياً جامعاً، ما أفضى لمراجعات بشأن علائق الدين بالقومية والإثنيات، وعلائق الدين بنظام الحكم. فالقومية الكردية في تركيا والعراق وإيران وسوريا لا تزال تسعى لإقامة دولة قومية جامعة. ونحن نعرف أن الأكراد هم في غالبيتهم العظمى من المسلمين السنة وعلى المذهب الشافعي. بيد أن محاولاتهم الانفصالية عن كل الدول التي يقيمون فيها، لا تستند إلى المكون الديني الواحد، بل إلى المكون الإثني واللغوي (والتاريخي) والجغرافي. وقد دفع النزاع الكردي مع سائر الدول الوطنية والقومية والنزاعات القبلية والإثنية المشابهة في آسيا وأفريقيا، الباحثين الأنثروبولوجيين والاستراتيجيين، إلى القيام بدراسات مُمايزة بين الدين والإثنية باعتبارهما أبرز عوامل الصراع في القرن الحادي والعشرين. وقد توصل بعضهم إلى أن العامل الإثني هو الأكثر إثارةً للنزاع أخذاً من أعداد مواطن التوتُّرات والصراعات في القارتين القديمتين.
على أنه ينبغي أن يقال إنه ليس في هذه النتيجة إن صحت، أي عزاء. فنحن نعلم -بعد الثورات العربية على الخصوص- أن المسألة الدينية أو علاقات المسلمين بالآخر غير المسلم، وطبيعة أنظمة الحكم التي يريدون إقامتها، تطرح إشكاليات كبرى. فهناك ميل جامح لدى كثرة من عامة المسلمين، إلى إقامة أنظمة حكم إسلامية تميز بحدود معينة بين المسلم وغير المسلم اجتماعياً وسياسياً على أساس الدين. ووجهة نظر هؤلاء أنهم يريدون أن يحيوا حياةً إسلامية كاملة، فذلك مقتضى هويتهم ودينهم. وما دام الأمر كذلك، فإنه يصعُبُ إقامة أنظمة حكم مدنية أو ديمقراطية حتى استناداً إلى صناديق الاقتراع. فنظام الحكم في الأزمنة الحديثة يقوم على مبدأ المواطنة، الذي يفترض التساوي في الحقوق والواجبات وبدون تمييز ديني أو إثني أو جغرافي أو اجتماعي. ولأنّ الأنظمة الشمولية القامعة ما عادت ممكنة، فمعنى ذلك أن تتفكك بعض الدول والبلدان إلى وحدات صغيرة على أساس الأديان والإثنيات، وتسود بينها النزاعات والحروب على الحدود وعلى مسائل أخرى كثيرة. فكما كانت الدولة القومية الشمولية في أوروبا وآسيا وأفريقيا مدعاةً لنزاعات كثيرة؛ فكذلك ستكون الدولة الدينية القادمة مثاراً لهذه النزاعات لسببين: النزاع في الأوطان وعليها بين المسلمين وغيرهم، والنزاع بداخل الإسلام وجماعات المسلمين على النظام السياسي وعلى التمايزات بين الأحزاب السياسية الدينية القائمة.
ولدى المسلمين مشكلات كبرى في مواطن هجرتهم واستقرارهم في الدول الأوروبية وأميركا وأستراليا. فقد أثاروا بإصرار بعض شبابهم على الخصوصية الشديدة، حذر ثم نفور سكان البلاد الأصليين، وأفضى الأمر إلى عنف تقلب فيه الناس بين ظلم وظلم. وكل ذلك ينسبهُ المتابعون إلى ما يعتبرونه «يقظة» في أوساط المسلمين، تجرف في وجهها كل الاعتبارات الأخرى للعيش والتعايش وقبول الآخر أو التسليم بجواره القريب أو البعيد.
إن السؤال الآن وغداً: لماذا يسلك المسلم العادي سلوكَ الخائف على دينه، أو لماذا يسلك سلوكَ الأقلية الخائفة والمتوترة حتى في البلدان ذات الكثرة الإسلامية؟ وما هي مآلات ذلك العيش التاريخي في مجتمعات تعددية والذي عاشه المسلمون في تجربتهم التاريخية والحديثة، وهم الذين صنعوه بوحي من دينهم وقرآنهم؟ لقد اعترف القرآن بالديانات الكتابية الأخرى، وأمر بالتسليم لأتباع تلك الديانات بالحريات الدينية والاجتماعية، وحرية التنقل والتجارة، والمشاركة شبه الكاملة في الحياة أو الحيوات بداخل دار الإسلام. ثم إن دول المسلمين وسعت من الاعتراف بأتباع الديانات غير الكتابية، وسادت وجوهُ عيشٍ وادعة خلال قرون وقرون: فما الذي حصل؟ ولماذا يضيقُ المسلمون ذَرْعاً بذواتهم الشاسعة في الأصل، وبالذوات والهويات الأخرى المشابهة أو المختلفة؟ برنارد لويس يعيد هذا الضيق إلى المنخفض الحضاري الطويل الذي دخل فيه المسلمون نتيجة الغَلَبة الأوروبية عليهم في القرنين الأخيرين، ثم نتيجة عواصف الحداثة التي ضربت طمأنينتهم وسكينتهم واستقرار بلدانهم. إنما من ناحية ثانية فإن المجتمعات الآسيوية والأفريقية الأخرى عانت ما عاناه المسلمون وأكثر. وهناك أمثلة الصين والهند واليابان. وهي مجتمعات هائلة وذات أمجاد تاريخية، وقد عانت معاناة شديدة تحت وطأة الغزوات الاستعمارية والحروب الإمبريالية. ومع ذلك كله فإنها ما قررت الانفصال الشديد عن الآخر الذي قرره المسلمون. هنا يقول لويس وغيره إن تلك المجتمعات أقامت دولا قومية، ونجحت في المشاركة بحضارة العصر، والإنتاج الصناعي والتكنولوجي والاقتصادي الكبير. وهو الأمر الذي لم ينجح فيه المسلمون نجاحاً كبيراً. ولذا فإن باحثين كثيرين يعتبرون أن هناك تجارب إسلامية واعدة، مثل إندونيسيا وماليزيا وتركيا. وهناك تجاربُ ناجحة للمسلمين في مواطن هجرتهم واستقرارهم. ومع الوقت؛ فإن وعياً جديداً سيُداخل المسلمين بأن دينهم ليس في خطر، وأنه ليست هناك مؤامرة عالمية عليهم!
لكنْ، إلى ذلك الحين، ماذا يكون بالوسع فعله لمواجهة الانفصاليات والتماميات على حد سواء؟ فالانفصاليات تستشري حيث يكون المسلمون أقليات. والتماميات تصعد وتستشري حيث تكون هناك كثرة إسلامية.
الواقع أن المسلمين لا ينفردون بالخطأ في المجتمعات التي يكونون فيها أقليات. فالآخرون تغيروا أيضاً، وهم أيضاً يأبَون الإصغاء والاعتراف أو فئات واسعة منهم. وفي حالات كهذه، يكون على المسلمين التمسك بحقوق المواطنة، والتأبي على العنف وعلى الدونية في الوقت نفسه. أما مجتمعات الكثرة الإسلامية فلا علاج لها ولا حل إلا بحدوث تغيير في الوعي الديني والاجتماعي والسياسي. وللنخبة التي تعرف الدين والعالم دور كبير في استحداث ذاك الوعي. وهذه العملية شاقة ومضنية لكنها ممكنة، ويساعد عليها الاستقرار القادم، والأنظمة السياسية التعددية، والسلطات الدينية المستنيرة.
المصدر: جريدة الاتحاد