عبدالوهاب بدرخان
عبدالوهاب بدرخان
كاتب ومحلل سياسي- لندن

الفضائيات و«لغتنا الجميلة»

آراء

لا لاستخراج الكلمات المنقرضة، لا للتقعير اللغوي، لا لتكسير الفصحى، لا للهجات المحلية… كثير من اللاءات تردد في أرجاء القاعة الكبيرة في مقر “اليونيسكو” يوم الثامن عشر من الشهر الجاري، الذي كرّسته هذه المنظمة الدولية اليوم العالمي للغة العربية، وهناك أيام للغات أخرى. كان واضحاً من المداخلات أن أصحابها يستشعرون وجود خطر على “لغتنا الجميلة” من التشوّهات التي تتعرّض لها، خصوصاً في الإعلام، لا سيما القنوات الفضائية الأكثر بلوغاً إلى المتلقين العرب في كل مكان، والمفترضة الأكثر اختراقاً لحياتهم اليومية من الإعلام المكتوب. لكن، جدّ جديد أيضاً على هذه المعضلة منذ انتشار وسائل الإعلام الحديثة والتواصل الاجتماعي بسبب شيوع استخدام العامية واستسهاله.

باستثناء الإنجليزية الغازية بلا منازع، وربما لسرعة تطوّرها وتكيفها ومرونتها، يبدو أبناء اللغات الأخرى جميعاً في حال دفاع عن لغاتهم، مسلطين الأضواء على المخاطر الآتية عموماً من الإنجليزية. والمتفق عليه أن اللغة كائن حي يتأثر بالمراحل التي يمرّ بها، من البيت إلى المدرسة إلى المجتمع والشارع، أي إلى الحياة العامة، وبالتالي، فإن المسؤولية موزّعة لدى الحديث عن سلامة الكلام. ولعل العربية تتميّز بأمرين: أنها لغة القرآن الكريم، وأن الفارق بين الفصحى والدارجة كبير أحياناً. فالفكرة في معظم اللغات الأخرى تُستذهن وتُستخرج بفوارق بسيطة، صياغية أحياناً، أما في العربية، فغالباً ما يكون الفارق أكثر تعقيداً. يُضاف هنا أن اللغة تعكس الشخصية والنفسية العامة، أي أنها تخضع لمدى تأصّل الحرية في التفكير والقول والتعبير، بمقدار ما تُظهر عمق الثقافة والحصافة.

إذا تجاوزنا مسؤولية البيت، فإن مسؤولية المدرسة حاسمة في حسن التلقين وسهولة التكيّف مع المنطق الذي يحكم تشكيل الحروف ووظائف الفعل وأراجيح الهمزة وتراقصات الرفع والنصب والجرّ. المسألة التي تُطرح هنا، هي طريقة تعليم اللغة وضرورة لجوئها المستدام إلى الابتكار، وإلا فما الذي يفسّر مثلاً أن التلميذ الذي يستوعب المعادلات الرياضية لا يجد القدرة نفسها لاستيعاب قواعد اللغة، والعكس صحيح أيضاً. ولعل السؤال مشروع أيضاً عندما لا تكون المنافسة بين العربية وأي مادة علمية، بل بينها ولغة أجنبية تجد طريقها بشكل أسرع إلى عقل المتلقّي.

سواء كانت عليها مسؤولية أم لا، يُعترف للفضائيات- وليس كلّها طبعاً- بأنها تستطيع أن تلعب دوراً حيوياً في مجال المحافظة على اللغة. في الانجليزية يُشار إلى لغة الـ “بي. بي. سي” وتميّزها الأناقة والنظافة والبساطة، أي أنها تستعمل مصطلحات غير معقّدة وغير ممزوجة بتعابير العامية، وتُقدَّم بلفظ سليم لا أثر فيه للهجات الجهوية، وبالتالي فهو يصل إلى مختلف مستويات الجمهور. والمعروف أن إتقان اللغة شرط شارط للعمل في أي وسيلة إعلامية غربية. وهو ما يُراعى في الفضائيات العربية المحترمة، لكن عدم إعطاء الوقت الكافي للتدريب لا يلبث أن ينزلق بالأداء بعيداً عن الانضباط الصارم، وهو ما يمكن أن يكون مفهوماً أحياناً بسبب ضغط الحدث وسرعته، إلا أن الإكثار من استخدام اللهجات المحلية قد يتسبب بانقطاع التفاهم بين المؤدي والمتلقّي.

يُنسب إلى الفضائيات وبعض الإذاعات في الخارج فضل إبقاء المهاجرين العرب على تواصل مع لغتهم أو تقريبها من أجيالهم الجديدة الأكثر صلة بلغات المجتمعات التي يعيشون فيها. ورغم أن هذه ظاهرة واقعية ومعترف بها، إلا أنه يصعب قياس مدى تأثيرها في تعميق هذا التواصل اللغوي إذ إنه لم ينعكس إقبالاً ولو ضعيفاً على الكتب والمطبوعات أو حتى على المواقع الإلكترونية العربية، لذلك بقيت العربية أشبه بهواية أكثر مما هي وسيلة تفكير وتعبير. في المقابل، يؤخذ على الفضائيات اندفاعها إلى المسلسلات “المدبلجة” (وهي بالمناسبة كلمة غير عربية لكنها متداولة كاشتقاق حرفي مباشر من كلمة أجنبية تعني إنطاق المتحدث بترجمة عربية متزامنة مع كلامه الأجنبي)، مع ملاحظة أن “المكسيكيين” أتقنوا الفصحى المفهومة من المحيط إلى الخليج، أما “الأتراك”، ففضّلوا العامية بلهجة سورية، فحصل استشكال مغاربي ترتّب عليه أن يُصار إلى دبلجتها محلياً.

لا تقع مهمة حماية اللغة على عاتق الفضائيات، لكن يعوّل عليها كثيراً. وفيما لم يؤدِّ التعليم دوره الحاسم لأن ابتكاريته ظلّت ضعيفة، فإن الإعلام التلفزيوني يبقى واعداً لأنه خلّاق بطبيعته. المهم أن يكون هناك اهتمام، لأن قضية اللغة تستحق، فهي قد لا تكون في خطر التلاشي والانحطاط، لكنها تحتاج بالتأكيد إلى تجديد وترشيق، والإعلام مدعو لدخول هذا المعترك، فاللغة خبزه اليومي.

المصدر: الاتحاد