المدني.. أول إماراتي يدرس في كامبردج والسربون

آراء

من بين مثقفي الإمارات المسلحين بأعلى الشهادات العلمية، والمتميزين بالتجارب الغنية وسعة الإطلاع والعلاقات الفكرية مع ثلة من مفكري وأدباء الغرب والشرق معًا، يبرز اسم الشاعر والكاتب والأديب الدكتور أحمد أمين المدني، الذي كان ضمن أوائل أبناء الإمارات الذين انطلقوا في منتصف القرن العشرين إلى الخارج للدراسة في المعاهد والجامعات الأجنبية.

كانت العادة في تلك الفترة أن يهاجر إبن مشيخات الساحل المتصالح إلى دول الجوار الخليجي كالبحرين والكويت وقطر والمملكة العربية السعودية بحثًا عن الرزق. أما من أراد منهم مواصلة تحصيله العلمي لنيل الشهادتين الإعدادية والثانوية فكانت وجهته هي البحرين والكويت بسبب تاريخهما الطويل في التعليم النظامي. وأما القلة القليلة المقتدرة ماديًا والطامحة إلى نيل الشهادة الجامعية فكانت قبلتها الهند بسبب سهولة الوصول إليها بحرًا ووجود الكثير من أبناء الخليج فيها كتجار ومقيمين.

17

لكن المدني شذ عن هذه القاعدة، لأن طموحه العلمي والمعرفي كان بلا حدود، ناهيك عن أن ذكاءه المبكر جعله لا يهاب التغرب واقتحام الصعاب في بلاد بعيدة.

ومن يقرأ سيرة المدني ويتفحصها سيجد أنه تنقل من مكان إلى آخر طلبًا للعلم والشهادات العليا، فلم يكن غريبا أن يلقبه الباحث والكاتب المسرحي السوري الدكتور هيثم يحيى الخواجة بـ«النورس المهاجر» في الكتاب الذي أصدره عنه في عام 2014 من خلال مؤسسة سلطان بن عويس الثقافية.

كما سيكتشف القارئ لسيرته أن حياته المهنية كانت هي الأخرى متنوعة لجهة الوظائف وأماكنها، وإن غلبت عليها كلها السمات الأدبية والتربوية والإعلامية.

ولد المدني في إمارة دبي في عام 1931، ودرس وفق الأسلوب التربوي التقليدي في إحدى أوائل مدارس دبي وهي المدرسة الأحمدية (نسبة إلى مؤسسها الشيخ أحمد بن دلموك الفلاسي)، لكنه بالتزامن مع ذلك، وعلى الرغم من قسوة الحياة وشظف العيش وقلة الحيلة راح يثقف نفسه بنفسه من خلال قراءة الصحف والمجلات والكتب الأدبية الصادرة في مصر ولبنان والعراق.

18

وفي عام 1947، حينما كان في سن السادسة عشرة، غادر وطنه «لسبب قاهر» بحسب تعبير الشاعر والناقد الإماراتي ذياب شاهين في مقال له بعنوان «في نشأة الشعر الإماراتي، رواد أضاءوا سماء الأدب» نشرته مجلة الرافد الصادرة عن دائرة الثقافة والإعلام في الشارقة. أما وجهته فقد كانت مدينة البصرة العراقية التي أكمل فيها تعليمه الابتدائي. ولسبب ما فضل صاحبنا أن يترك البصرة ويذهب بعد ذلك إلى بغداد لمواصلة مرحلة دراسته الثانوية.

وبمجرد حصوله على الشهادة الثانوية إلتحق بجامعة بغداد بهدف الحصول على ليسانس الشريعة وعلوم اللغة العربية، والذي ناله بالفعل في عام 1958.

كانت بغداد، بل العراق كله، في هذه الحقبة من خمسينات القرن العشرين تموج بحراك ثقافي حداثي التوجه بقيادة نخبة من أعلامه الأدبية والشعرية من أمثال الدكتور مصطفى جواد، بدر شاكر السياب، جواد سليم، نازك الملائكة، محمود البريكان، وغيرهم. لذا لم يكن مستغربًا أن يتأثر المدني بهم وبغيرهم أيضا من الشعراء العرب مثل السوري سليمان العيسى، فيصبح واحدًا من أبرز شعراء التفعيلة في الإمارات إلى جانب صديقه ومنافسه في ريادة الشعر الحديث الشيخ صقر بن سلطان القاسمي (حاكم الشارقة الأسبق). ولأن الأخير لم يستمر في كتابة شعر التفعيلة وهجره سريعًا، فإن الأدبيات الإماراتية تعتبر المدني هو رائد التحديث في شعر الإمارات بلا منازع، والشخصية التي أخذت على عاتقها تجديد الشعر وفتح الباب على مصراعيه أمام الشباب للتأثر بالشعر الحر ونظمه. وفي هذا السياق كتب غيث خوري في صحيفة الخليج الإماراتية (10/‏6/‏2016): «يعد الدكتور أحمد أمين المدني أحد أهم رواد الثقافة الإماراتية المعاصرة الذين حملوا هم النهوض بالثقافة المحلية وإدخالها في مناخ العصر، وعيًا ورغبةً منهم بضرورة التعرف والاطلاع والتمازج مع الثقافات العربية والعالمية وما تشهده من نقلات وتطورات، وسعيًا للتجديد في الأجناس الفنية والأدبية كافة».

19

لكن دعونا نقرأ ما كتبه المدني بنفسه عن الشعر الحر في مقدمة ديوانه «حصاد السنين». لقد كتب النص التالي: «إن كسر أسلوب الشطرين منح الشعر الحديث حرية كبيرة في التعبير عن التجربة الشعرية، ولعل القافية الموحدة تعينه في بعض الأبيات لالتقاط المعنى المجرد، ولكن تفقد أهم عناصر الفن الشعري من ظلال وموسيقى، وجمال موح، وانفعال شعري. واتباع الطريقة القديمة في القافية المركزة العمودية تضطر الشاعر إلى أن يستعيض عن كلمة فيها دفق وحرارة بكلمة باردة جافة».

20

وهكذا ليس من المبالغة القول إن كل الذين تجرأوا على القصيدة الكلاسيكية وولجوا إلى قصيدة التفعيلة في الإمارات من أمثال أحمد راشد ثاني، ظبية خميس، عارف الخاجة، نجوم الغانم، خالد بدر عبيد، ومن بعدهم الموجة الثانية التي اشتملت على أسماء مثل: عبدالعزيز جاسم، إبراهيم محمد إبراهيم، ظاعن شاهين، كريم معتوق، ثاني السويدي، محمد المزروعي، إبراهيم الهاشمي، عادل خزام، هم في حقيقة الأمر طلبة مخلصين للمسيرة التي بدأها المدني.

يقول البعض إن المدني تأثر كثيرًا بالشاعر الحزين بدر شاكر السياب بعد أن تعارفا على بعضهما البعض في عام 1949 في مكتبة من مكتبات البصرة المتواضعة التي كان يملكها الشاعر العراقي هشام الجواهري ويتردد عليها شعراء من العراق والكويت (طبقًا لحديث منسوب إليه وجدته في كتاب «حيث الكل» للأديب الإماراتي الراحل حمد راشد ثاني). ولعلّ أكبر دليل على تأثره بالسياب هو أنه، أثناء إقامته بالعراق، كتب نصوصًا شعرية كثيرة شبيهة بتلك التي كتبها السياب وهو بعيد عن العراق لجهة الوله والشوق إلى أمه وبلده والشكوى من المرض والفراق وعدم القدرة على العودة. وإذا كان السياب قد جسد ذلك في قصيدته «غريب على الخليج» في عام 1953، فإن المدني جسده في قصيدة كتبها في بغداد سنة 1958 تحت عنوان «أطياف الخليج»، أهداها إلى أمه وضمنها لوعته ومراراته بسبب الغربة والتشرد والحنين. ومما جاء في هذه القصيدة:

مغاني الخليج ألا تذكرين

فتاك الشريد.. بليل السنين؟

رؤاك تعانقني كلما

أطل عليَّ المساء الحزين

تبلور في مقلتي الدموع

وترعش في جانحي الحنين

وللمدني نص شعري آخر في السياق نفسه تقريبًا، يتحدث فيه عن الطبيعة التي لم يستطع جمالها وسحرها أن ينتشلاه من الحزن والقنوط وتمني الموت. وفيه نقرأ:

النار في التنور

تمور، والماء في الجذور

يفيض في نقائه الطهور

وخضرة الأوراق تزهو في الصخور

وشاعر الأحزان ينسج الزهور

لعالم أيامه قبور

يعيش في العصور

آماله موت بلا نشور

والكون في جلاله يدور

من حوله يدور

غير أن حنينه الجارف إلى وطنه ومرابع صباه فجره في قصيدة أخرى من أبياتها:

حنينا يفوق حنين الجديب

إلى قطرات السحاب الهتون

يفجر نفسي، قرارة نفسي

نداء عنيفا… قوي الرنين

خليج.. ويا للنداء الحبيب

يرن بأعماق روحي الحنون

تصاعد كالمد في أعرقي

وكالعصف من أضلعي في الدجون

خليج خليج ويعلو النشيج

بصدري ويعلو خفوق الأنين

وإذا ما عدنا إلى مشوار المدني التعليمي نجد أنه بعد مرحلته البغدادية توجه إلى اسكوتلنده والتحق هناك بجامعة أدنبره التي نال منها شهادة الماجستير في التاريخ.

في هذه الجامعة نشأت بينه وبين أحد كبار أساتذتها علاقة وثيقة كان من نتائجها أن أشار عليه الأخير الانتقال إلى جامعة كامبردج لتحضير الدكتوراه في الفلسفة.

وبالفعل عمل المدني بنصيحة صديقه وأستاذه فأكمل تعليمه العالي في جامعة كامبردج البريطانية العريقة وحصل منها على درجة الدكتوراه في الفلسفة في عام 1967، ليصبح بذلك أول مواطن من الإمارات يحصل على مثل هذه الشهادة العالية، وكانت أطروحته للدكتوراه التي أنجزها في سبع سنوات بعنوان «فكرة التوحيد في الإسلام». لم يكتفِ المدني بكل هذا، فشغفه بالعلم والتحصيل قاده بعد نيل درجة الدكتوراه إلى باريس التي التحق فيها بجامعة السوربون لدراسة الحضارة واللغة الفرنسية وآدابها. وهنا أيضا سجل إسمه كأول إماراتي يقدم على ذلك.

لكن ماذا عن الحياة المهنية للمدني بعد عودته إلى وطنه مسلحًا بأعلى الدرجات العلمية؟ من سيرته الذاتية المنشورة في العديد من المواقع الإلكترونية، ومما ورد في كتاب «النورس المهاجر» المشار إليه آنفًا، ومما كتبه وجمعه أحمد محمد عبيد في كتابه «أحمد أمين المدني في آثار الدارسين» الذي تكفل الأديب والمؤرخ الإماراتي عبدالغفار حسين بطباعته على نفقته الخاصة، وصدر في عام 2002 عن دار المعارف بالشارقة، ومما ورد أيضًا في الطبعة الثانية من كتاب «حيث الكل» لمؤلفه أحمد راشد ثاني الصادر عن دار الرؤى اللبنانية في عام 1995، يتبين لنا أن المدني اشتغل بالتدريس أولاً في بغداد ثم في المدرسة الصناعية بالشارقة بعد عودته من رحلته التعليمية الطويلة، وأنه عمل مذيعًا ومحررًا ومقدمًا للبرامج في إذاعة صوت الساحل (أولى إذاعات الإمارات، وكانت تبث من منطقة المرقاب بالشارقة)، كما عمل بعد ذلك أمينًا عامًا للمكتبة العامة التابعة لبلدية دبي حيث افتتح فيها في عام 1970 أول فصول محو الأمية في هذه الإمارة. وبعد استقلال مشيخات الساحل المتصالح وتوحيدها في كيان واحد في عام 1971 إلتحق بوزارة الدفاع الاتحادية كمدير للسكرتاريا ليبقى في هذه الوظيفة من عام 1972 إلى عام 1977، الذي أصيب فيه بمرض لم يستطع معه مواصلة أعبائه الوظيفية فقرر الاستقالة والتفرغ لأعماله الفكرية والأدبية والمشاركة في الندوات والمحاضرات حول الأدب والفكر والمجتمع، والتي واصلها دون كلل إلى أن رحل عن دنيانا في عام 1995، تاركًا خلفه سيرة عطرة ومؤلفات شعرية وفكرية متميزة. ومن الجدير بالذكر ان الرجل في الفترة ما بين التحاقه بوظيفته بوزارة الدفاع الاتحادية واستقالته منها عمل في مجلة الأمن الصادرة عن قيادة شرطة دبي، وفي القسم الثقافي بجريدة الاتحاد الصادرة من أبوظبي، وفي القسم الثقافي بجريدة الخليج الصادرة من الشارقة.

وطالما تطرقنا إلى أعماله الفكرية والأدبية، فلابد من الإشارة إلى أن الرجل كتب الشعر مبكرًا حينما كان في العراق، بل نشر قصائده الأولى في الصحافة العراقية حيث فازت إحداها في مسابقة نظمتها صحيفة «فتى العراق» الموصلية. ثم واصل المدني نظم القصائد بعد عودته إلى بلاده إلى جانب ملازمته لشعراء بلاده والالتقاء بهم في مجالس مبارك العقيلي، والشاعر أحمد بن سليم، والأديب الكويتي عبدالله الصانع، إضافة لحضوره الدائم لمجلس يومي كان يعقد في دكان مبارك المسقطي في شارع سوق الذهب بدبي ويرتاده كبار الشعراء والأدباء والمثقفين من أمثال مبارك العقيلي، احمد بن سليم، عبدالله الصانع، عبيد التاجر، خليفة بن سعيد المطروشي، الشيخ راشد بن بطي آل مكتوم، راشد بن سعيد يابس راس، الشاعر خلفان بن يدعوه، السيد هاشم الهاشمي، الشاعر محمد بن زنيد وغيرهم وذلك من أجل دراسة ومناقشة كل ما يتعلق بالشعر والأدب.

جمع المدني قصائده ونشرها في ثلاثة دواوين هي: حصاد السنين (1968)، أشرعة وأمواج (1973)، وعاشق لأنفاس الرياحين (1990). غير أن عددا من قصائده ظل مبعثرًا في صورة مخطوطات غير منشورة، لذا اجتهد مواطنه الشاعر والأديب احمد محمد عبيد في جمع هذه القصائد وطبعها في كتاب أطلق عليه اسم «قصائد ضائعة لاحمد المدني»، علمًا بأن الكتاب صدر في عام 2001 عن المجمع الثقافي في ابوظبي. وحول هذا الموضوع صرح عبيد لوكالة أنباء الإمارات قائلاً: «قمت بجمع مادة من خمسين قصيدة متناثرة للشاعر الإماراتي الراحل أحمد أمين المدني، شكلت ديوانًا رابعًا إلى جانب دواوينه الثلاثة، كما قمت بجمع مقالاته وموضوعاته المتناثرة، لتكون شاهدة على تجربة كاتب في مرحلة ما من حياته».

لم يكتفِ المدني بكتابة الشعر فحسب، وإنما ساهم في الحياة الثقافية في دولة الامارات العربية المتحدة من أوسع أبوابها، فكتب العديد من الدراسات، ونشر العديد من المؤلفات، وحاضر في الكثير من الندوات والفعاليات الثقافية. فبالإضافة إلى دواوينه الشعرية، أخرجت له المطابع أربعة مؤلفات حملت العناوين التالية: التركيب الاجتماعي الديني (كتبه في العراق وهو مفقود)، الشعر الشعبي في دولة الإمارات العربية المتحدة، دراسة في الأدب الأندلسي، دراسة في الفلسفة.

وللمدني أيضًا الكثير من المقالات والبحوث التي نشرها في سنوات متفرقة في كبريات الصحف والمجلات العربية. فقد كتب في صحف عراقية مثل «العاصفة» و«الأهالي» و«القبس» و«الزمان»، وفي مجلات لبنانية مثل «الأديب» و«الآداب» و«الورود»، وفي مجلات مصرية مثل «الرسالة» و«الأديب» و«الشعر»، وفي مجلة الفكر التونسية ومجلة الضاد السورية ومجلتي «أخبار دبي» و«الأزمنة الحديثة» الإماراتيتين، وفي صحف «البيان» و«الاتحاد» و«الخليج» و«الفجر» الإماراتية.

أما الذين كتبوا عنه، سواء في حياته أو من بعد مماته، فهم كثر. فعلى سبيل المثال كتب عنه شاعر عمان الأشهر المرحوم عبدالله محمد الطائي في كتابه «الأدب المعاصر في الخليج العربي»، والشاعر المصري المولود في السودان محمد عامر البحيري، والشاعر السوداني محمد نوراني، والناقد الأردني يوسف ضمرة، وغيرهم.

ووصف الكاتب الصحفي التونسي «ساسي جبيل» أحمد المدني بصاحب الحس المرهف ووصف شعره ونثرياته في مقال له بصحيفة الإتحاد (24/‏7/‏2014) ب «رقة العبارة وصفاء اللغة وأهمية الطرح»، مشيرًا إلى أن طروحاته الفكرية تأثرت بمسيرته التي نهل فيها من الشرق والغرب. والشق الأخير صحيح ليس لأن المدني درس في العراق وبريطانيا وفرنسا فحسب، وإنما أيضا لأنه استغل كل سانحة للاستفاد من فترة وجوده في بريطانيا لجهة الاتصال بكبار الفلاسفة والمؤرخين والنقاد والأدباء البريطانيين والتعرف عليهم وإجراء حوارات أدبية وتاريخية وفلسفية ثرية معهم. فعلى سبيل المثال التقى في كمبردج أكثر من عشر مرات بالمؤرخ البريطاني المعروف أرنولد توينبي، والتقى مرتين بالشاعر توماس ستيرنز إليوت، ومثله مع الناقد فورستر وغيرهم.

أما الشاعر والصحفي الأردني يوسف أبو لوز فقد كتب في صحيفة الخليج (24/‏5/‏2016) مقالاً عن المدني وصفه فيه بالشاعر الصادق المعانق للخيال الخلاق الذي «نشأ على خلفية إبداعية لها مذاق خاص». كما أشار أبو لوز أن المدني أخبره بأنه في سنواته العراقية تعرف على طارق عزيز الذي صار فيما بعد وزيرًا لخارجية صدام حسين، وأن طارق عزيز كان يكتب الشعر والقصة القصيرة في شبابه.

وفي السياق نفسه كتب عنه الكاتب الصحفي محمد عبدالسميع في جريدة الاتحاد (26/‏2/‏2016) قائلاً: «أحمد أمين المدني شاعر يكتب الشعر بلغة الواثق من المشاعر، يجسد الصورة الخيالية ليدعها تتحدث عن خلجات ذاته، فمن منا لم تخاطب قصائده أحاسيسه، ووجدانه، فيطرب لها تارة، ويحزن معها تارة أخرى. هو شاعر الموقف، والمكان، والعاطفة، والنصيحة، غزير الفكر، واسع الخيال، بليغ الوصف، قوي المعنى. عاش المدني بين فترتين، الأولى ما قبل ظهور النفط وما قبل الاتحاد، والثانية بعد ظهور النفط وبعد قيام الاتحاد، واطلع على حركة الشعر في الإمارات ودول الخليج العربي والوطن العربي والعالم الغربي أيضًا».

تم تكريم المدني في نادي زعبيل بدبي في سبتمبر 1989 ومنح جائزة راشد للتفوق العلمي من قبل مؤسسة العويس الثقافية بصفته أول الحاصلين على درجة الدكتوراه من أبناء دولة الإمارات العربية المتحدة.

كما أطلق اسمه على إحدى أمسيتين أقيمتا في سبتمبر 2016 على هامش اجتماعات المكتب الدائم للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب التي استضافتها دبي بدلاً من دمشق بسبب الحرب والاقتتال في سوريا. لكن قبل ذلك، وتحديدا في 14 ديسمبر 2006 تم، على هامش معرض الكتاب بالشارقة، تدشين المجموعة الشعرية الكاملة للمدني التي احتوت على 560 صفحة من القطع المتوسط مع طباعة أنيقة وغلاف يحمل دلالات تأبينية بمناسبة مرور 11 عامًا على رحيل الشاعر، علمًا بأن اتحاد كتاب وأدباء الإمارات هو الذي تبنى العملية بكاملها اعترافًا منه بدور المدني الريادي ومكانته في بحور الثقافة والعلم والمعرفة حتى آخر يوم في حياته.

وقد قام ابن الشاعر «عويس أحمد المدني» بتوقيع المجموعة الشعرية لوالده، وصرح بهذه المناسبة لوسائل الإعلام أنه كان محاطًا برعاية خاصة من قبل والده كونه أصغر أبنائه. كما استذكر صورتين أثيرتين لوالده: الأولى عندما كان ينعزل في مكتبته الخاصة لساعات طويلة في الليل، ولم يكن يشأ أن يكدر أحد عليه صفاء هذه العزلة. والثانية حينما رفض رفضًا قاطعًا مغادرة منزل العائلة القديم في منطقة «السطوة» للانتقال إلى منزل جديد في منطقة «المردف» بدبي «حيث ظل مصرًا بشدة على هذا الموقف الذي كان نابعًا أساسًا من حبه للبيت الأول وللمحيطين به من أصدقاء وجيران، واعتياده عليه وعلى تفاصيله، خصوصًا وأنه كان متعلقًا بشدة بمكتبته ولم يكن يريد أن يعيد ترتيبها مرة أخرى وفي مكان آخر».

ونختتم بهذه الأبيات الجميلة من قصيدة للمدني بعنوان «إلى مغنية»:

هوينا.. هوينا.

فقد عسعس الليل..

نشوان..

من نغمات الوتر

ورف على الرجع

همس النسيم

وهوم

في الأفق ضوء القمر

تراه.. تأوه ذاك الهوى

ففجر أصداءه،

في الحجر؟

المصدر: الأيام