محمد العصيمي
محمد العصيمي
كاتب سعودي

انحسار موجة التصنيف على أساس ديني أو فكري في الوطن العربي

آراء

في الوقت الذي عشنا موجة هائلة من التصنيف الديني والفكري في سنوات صعود جماعة الإخوان وحكمها في مصر يبدو أننا نشهد الآن انحسارا واضحا لهذه الموجة التي كادت أن تأخذ العرب إلى التنازع الفئوي والحروب الأهلية، التي لم تكن، كما توهم البعض، لتقتصر بأي حال من الأحوال، على المحيط القُطري الضيق لسببين. السبب الأول هو أن الجغرافيا العربية مترابطة عضويا رغم كل مظاهر الفرقة والاختلاف، والسبب الثاني أن جماعات الإسلام السياسي تستهدف العالم العربي كله وليس بلدا دون آخر.

وكادت مصر، كما نعلم، أن تقع فعلا في حرب أهلية، لم تعرفها في تاريخها، جرّاء تساهل جماعات الإسلام السياسي بقيادة الإخوان في التعاطي مع التصنيف والإلغاء والعنف اللفظي، الذي وصل حد التّكفير وتوزيع صكوك الجنة والنار في خطب الجمعة وخطب الانتخابات.

وهي مسألة بلغت حدها الأقصى حين أصبح الإنسان المصري، رجلا أو امرأة، يخشى على حياته ونفسه وجسده من عدوان يقع عليه جراء هذا التصنيف، الذي أصبح يبرر أو يقلل من شأن الإرهاب الذي يتدثر بعباءة الدين أو ينتسب في مجمله إلى فتاوى وانتحالات تستقوي بعصا النظام الإخواني الحاكم.

هذه العصا الإخوانية أطلقت، بدون شك، بعض الخلايا النائمة والأصوات الكامنة، المتربحة حزبيا وشخصيا، من عقالها لتنشأ من جراء ذلك حالة رعب اجتماعي غير مسبوق عندما أصبح بإمكان أي متحدث، داخلي أو خارجي، أن يرتكب جريمة التحريض على الاعتداء أو القتل ثم ينجو بجلده دون أن تُتخذ في حقه أية إجراءات قانونية، ودون أن يعاقب نتيجة لتهديده السلم الوطني والاجتماعي. بل إن بعض المرتكبين لجريمة التصنيف الأسود والإلغاء والتحريض، كما شاهدنا، تحولوا إلى نجوم تلفزيونيين تتسابق برامج الحوار إلى استضافتهم وتخصيص أوقات الذروة لحضورهم وأحاديثهم.

ولأن الإخوان وجماعات الإسلام السياسي ترعى أطرافا تسعى إلى التمكين في كل الدول العربية فقد امتد سعير هذا التصنيف وهذا التحريض إلى هذه الدول لتشهد، على خلاف ما عرفته سابقا من الاختلافات والمناجزات الفكرية المضبوطة، جرأة بالغة في الاعتداء على اختيارات الناس، وتسفيه وتحقير هذه الاختيارات. وتجاوز الأمر حده المعقول حين أُطلقت قنوات تلفزيونية معروفة لم تكن لها من وظيفة سوى بث الكراهية والحقد والفرقة بين أبناء الوطن الواحد. وظهرت أسماء أشخاص، يُحسبون على قادة الرأي والأكاديميين، يستقوون بمظلة الإخوان السياسية وبمظلات جماعات الإسلام السياسي عموما، لم يكن لهم من شغل سوى التهديد والوعيد لكل من خالفهم وانتحى عن فكر وأجندة هذه الجماعات.

وقد ناجزتُ، شخصيا، بعض هذه الشخصيات على وسائل التواصل الاجتماعي وفي البرامج التلفزيونية ولمستُ مباشرة قدر ما يشعرون به من زهو يخلو من التواضع، ومن فوقية على الآخرين واستعلاء واستكبار جاوز ذلك الاستعلاء والاستكبار الذي عرفناه من المحسوبين على الأحزاب والأنظمة الحاكمة في عقود ما بعد الاستقلال إلى ظهور موجة الثورات العربية الحديثة.

وبقدر ما كانت تلك الأحزاب والأنظمة العتيدة ذكية وحريصة على عدم استثارة الناس في خطابها السياسي والإعلامي، كان متصدرو المشهد الاتصالي في فترة صعود حكم الإخوان أغبياء بامتياز، حيث لم يكن بمقدورهم أن يبدلوا قواميسهم العنيفة والإلغائية بقواميس جديدة تأخذ في اعتبارها انتقالهم من الزوايا والمساجد إلى قصور الحكم وصالات الحديث الرسمي، المسؤول والخاضع لرقابة الجماهير ومؤسسات المجتمع المدني والمنظمات الدولية. ولذلك كان سقوطهم في امتحان خطاب الإعلام والاتصال مقدمة لسقوط حكمهم في 30 يونيو، ومن ثم سقوط كل المحسوبين عليهم في الدول العربية، الذين تراجع فجأة زهوهم الفج على الآخرين وتضاءل استعلاؤهم واستكبارهم بشكل واضح.

وكان مما أيد هذا التراجع الكبير، في الخطاب التصنيفي والإلغائي لجماعات الإسلام السياسي، ما اتخذته مصر والسعودية من إجراءات صارمة، في صورة قوانين رسمية، مثل اعتبار جماعة الإخوان وجماعات أخرى متطرفة جماعات إرهابية، وبتجريم أية حالة انتماء لمثل هذه الجماعات. الأمر الذي قيد كثيرا من النصوص والشعارات التحريضية الفالتة وأعاد الأمور، بقدر كبير، إلى نصابها الصحيح على المستويين الوطني والاجتماعي.

ويلحظ السعوديون، والخليجيون بشكل عام، الآن هدوء جبهة وسائل التواصل الاجتماعي، لاسيما منصات تويتر وعودة السكينة لها بعد أن شغلها الإخوان، مصريون وخليجيون، على مدى ما يقرب من عامين بخطابهم وشعاراتهم التحريضية. وشغلوها أكثر بالبذاءة والاعتداء على أي رأي أو فكر آخر لا ينسجم مع آرائهم وأفكارهم.

وحسنا فعلت بعض الأسماء المحرّضة حين أعلنت انسحابها من منصات التواصل، لأنها بهذا الانسحاب، الذي أرادت أن تسجل احتجاجها على القوانين الأخيرة، تثبت أولا أنها لا تعيش، كما وصفناها من قبل، إلا على صناعة الكره وصياغة نصوص التحريض والتأليب. وتثبت ثانيا أنها غير قادرة، مثل غيرها من المخلصين، على المشاركة في بناء رؤية وطنية منتجة ومؤثرة في مسيرة أوطانها ومستقبل هذه الأوطان. وهذا يعني أن هذه الشخصيات، المنسحبة من مشهد التواصل العام، مسممة فكريا إلى درجة أنها لا تطيق المشاركة في الفعل الوطني والاجتماعي المنتج والمطمئن.

ولذلك أعتقد أن أمامنا، في الوطن العربي كله، حالة قابلة للبحث والتمحيص بعد أن وصلنا إلى ذروة الفكر الضال عقب تجربة الثورات الأخيرة. وهي تلك الحالة البشرية العربية التي فرغتها مدارس قديمة وحديثة من فكر وإرادة التنوير والبناء لتكون، بأفكارها وشخوصها، أدوات هدم وتدمير لحاضر بلدانها ومستقبلها.

وربما لا تُحمل هذه الحالة كل المسؤولية في هذا الضياع والتأخر العربي المشهود، بقدر ما تتحمل هذه المسؤولية الأنظمة السياسية التي سمحت لفترة من الزمن لمدارس هذا الفكر التدميري أن تنمو وتتوالد ليحيق خطرها بالجميع.

أما أهم علامات الندم والتراجع عن دعم هذه المدارس وتجفيف منابعها الفكرية ومنتجاتها البشرية (المُسمّمّة) فهي أن نكف عن مجاملة قادتها ورموزها وأن نفضح ونجرم، دون مواربة، كل شخص وكل فعل لا يتماهى أو ينسجم مع الغايات الوطنية، سواء تعلقت هذه الغايات بالتنمية والتقدم أو تعلقت بالأمن الوطني والسلامة الاجتماعية.

المصدر: صحيفة العرب