عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
يسود التأزم السياسي والمجتمعي كلَّ البلدان العربية التي جرى فيها التغيير في الحاكم أو نظام الحكم. وهذا إنْ دل على شيء؛ فإنه يدل على أن الذين وصلوا للسلطة أو كادوا، لا يملكون توجهاً واضحاً ولا بدائل يمكن المسير فيها بشيء من الثقة. وهذا أمر مختلف عن الحديث الآخر الذي يقول إن العالم العربي يمر بمخاض هائل، تحوطه استنزافات آتية من إسرائيل وإيران في الإقليم، ومن الصراع الدولي على المنطقة بين الكبار.
ولنبدأْ بحالتي سوريا والعراق، باعتبار أن التأزمَ فيهما ما أفضى إلى تغيير الحاكم بعد. فنظام الحكم السائد في العراق منذ عشر سنوات، من صناعة أميركية إيرانية. وقد رُتّبت مجريات «العملية السياسية» بحيث يسود طرف غالب، موزَّعُ الولاء بين إيران وأميركا، أما سيطرته داخلياً فتعتمد على الجيش وقوات الأمن التي بُنيت بطريقة تُخضعُها قانوناً لرئيس الوزراء. وخلاف المالكي مع الأكراد في الحقيقة خلاف على الحدود، وعلى كركوك، لأنهم لا يزالون ماضين باتجاه الاستقلال، وميزانهم في التوقف أو التقدم في العملية الأميركيون والإسرائيليون. وبانتظار حصول تقدم جديد لمصلحتهم يعتبرون ما يحصلون عليه من نظام المالكي بمثابة الغنائم المزيدة. وبانتظار كل ذلك، أقاموا علاقات وثيقة مع تركيا. وهكذا فإن المحافظات السنية الثائرة منذ أربعة أشهر ونيِّف باقية وحدها. وليست هناك غير نقطتين إيجابيتين؛ تتعلق أُولاهما بالاستنفار الشامل في صفوفهم من أجل حقوق المواطنة. وتتعلق الثانية بقدرتهم على البقاء موحدين وسلميين ومنفتحين على بقية مكونات العراق. إنما إذا استمر هذا الضغط الفظيع، فلا يبقى لهم غير مسألة الأقاليم، وهي ليست لمصلحتهم ولا لمصلحة وحدة العراق في المدى المتوسط والبعيد.
والواقع أن المسألة السورية ازدادت تعقيداً بالدخول الإسرائيلي على الخط. وهكذا صارت سوريا بين إيران وإسرائيل. الأخيرة تقول إن تدخلها محصور بمنع النظام من إيصال السلاح الاستراتيجي إلى «حزب الله». والأخير والأسد يقولان إنهما سيزيدان في تبادُل الأسلحة وتبادُل الدعم، والإعداد (الآن!) لتحرير الجولان معاً. ولذا فإن «التدويل» الذي بدا في لقاء كيري ولافروف وبوتين صار حلاً أو حائلاً دون نشوب حرب بين إسرائيل وإيران على سوريا! بينما تخشى تركيا من الاتجاه إلى إقامة دويلة علوية بدأ النظام و«حزب الله» العمل عليها بالمذابح والتهجير! وبذلك فقد ازدادت المخاطر في سوريا ومن حولها: فالنظام باق بقوة إيران وروسيا، والشعب السوري يزداد فيه القتل والتهجير والخراب، وما نجح العرب والأتراك في ترجيح الكفة لمصلحة الثوار.
وما كان لبنان من بيئات الثورات الناشبة منذ عامين ونصف. لكن «حزب الله» صار جزءاً من المشهد، لقتاله في سوريا، ولتمثيله مصالح إيران في كل مكان. وليست هناك سلطة واحدة، بحيث ينأى لبنان بنفسه فعلياً. لذلك يستمر التهديد بأن تسقط السلطات أكثر مما هي ساقطة، فلا تجري انتخابات ولا تتشكل حكومة وينتظر الجميع ما سيحصل في سوريا، ولمن تكون اليد العليا هناك بعد أشهُر.
على أن أوضاع البلدان العربية التي سقط رؤساؤها ليست أحسن حالاً، وإن يكن القتل فيها أقلّ بكثير وقصة ليبيا موحية ودالة لهذه الناحية. فقد ذهب القذافي وأولاده، وقطعت العملية السياسية مرحلةً لا بأس بها، لكن البلاد غاصّة بالسلاح والمسلحين. والأخيرون يشعرون بالخديعة، لأن العملية السياسية جرت من دون مشاركتهم. لذلك تدخّلوا بالسلاح لتعطيلها بحجة الإصرار على إقرار قانون العزل السياسي. وإذا طُبق القانون الذي أقرّه المجلس الوطني الليبي؛ فإن معظم المسؤولين الآن سينالهم قانون العزل، ويخلو ثلثا المناصب من شاغليهما الحاليين!
وفي تونس، أقبل الجيش أخيراً على ملاحقة المسلحين في الجبال والبوادي. وفي كل يوم تظهر أحزاب جديدة معارضة بحيث صار المعارضون للعملية الجارية أكثر عدداً من الشعب التونسي نفسه! وهذا فضلًا عن تزعزع الأمن، وتأخر كتابة الدستور، وسوء الأوضاع الاقتصادية.
وما جرى ويجري بمصر لا يختلف عما بتونس، مع أن العملية السياسية مضت هناك بخطوات أسرع. فهناك الآن دستور جديد مختلف عليه، ومجلس شورى له صلاحيات البرلمان الغائب وهو يعمل على عشرات القوانين التي لا يلتفت إليها أحد. وما عاد معروفاً متى ستجري الانتخابات. وهناك اشتباك على الحكومة القائمة، واشتباك بين النظام والقضاء، ومع الإعلام. وقد انقسمت البلاد بين «الإخوان» وخصومهم المتزايدين. والعنف منتشر في كل مكان. والنظام يتخبط في ثلاثة أمور على الأقل: الملفات الداخلية في شتى النواحي. وسياسات مصر العربية والإقليمية. وسياسات مصر الدولية. ورغم أن السلطة منتخبة؛ فإن الجيش تزداد شعبيته بعد أن كان «المدنيون» يريدون إخراجه من السلطة بأي ثمن. وكذلك الأمر مع الأزهر ومشيخته والتي صارت قطباً جاذباً وقوياً بسبب الاختلاف مع «الإخوان» من سائر الفئات. والأوضاع الاقتصادية شديدة السوء، وما اكتشفت الرئاسة بعد السبيل الذي ينبغي السير فيه لتحسين معيشة المواطنين. وتستميت السلطة في «اكتشاف» الدور الذي ينبغي أن يكونَ لمصر في الزمن الجديد. لكنها لا تبحث عن الدور مع العرب، بل مع إيران ومع روسيا، والآن مع البرازيل بعد الصين! وهناك مهادنة مع إسرائيل ومع الولايات المتحدة. بيد أن أياً من هذه التحركات والأدوار لا تحظى بالشعبية اللازمة.
وقد كان اليمنيون ينتظرون مؤتمر الحوار الوطني بفارغ الصبر. بيد أن النتائج حتى الآن تبدو هزيلة. وما خفّ خطر «القاعدة». ولا تضاءلت ميول الانفصال في الجنوب. وقد جرى الحديث في الأيام الأخيرة عن حل في الفيدرالية، فكأنما نسي الجميع مغانم الوحدة وشعبيتها والتي تحققت في مطالع تسعينيات القرن الماضي. والفقر داء اليمن العياء، لكن هذا الملف لا يحظى إلا بأقل الاهتمام. إنما «العجيبة» الحاصلة في اليمن ما حصلت في غيرها، فحتى في مصر وتونس جرت أحداث عنف أكثر من اليمن. ويرجع ذلك إلى التوازن القَبَلي من جهة، وإلى عدم ميل علي عبد الله صالح إلى العنف، رغم أن «حداثته» لا تُقاسُ بـ«حداثة» الأسد القاتلة!
إن مشكلة هذه البلدان جميعاً هي عدم القدرة على الانتظام بعد الثورات. وفي كل الأحوال، فإن النخب السياسية القديمة والجديدة تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية، لأنها تتصارع على السلطة كأنما الأوضاع طبيعية، وقطوف السلطة دانية. إنما ليس هذا فقط، ففي أكثر البلدان ليست لدى النخب الجديدة «خريطة طريق». وحتى في الحالات التي كان فيها العامل المحلي غالباً؛ فإنه بعد قيام التحرك أو سقوط الحاكم، صار العاملان الإقليمي والدولي غالبين، وإن لم يكونا كذلك فهما يستطيعان الإعاقة والتعطيل، كما هو واضح في سوريا والعراق ولبنان.
لا يملك معظم أهل النخب القديمة والجديدة في بلدان الثورات ما يتعدى الطموح الشخصي. لذلك تملك إسرائيل وإيران وروسيا وأميركا القدرة على التأثير عليهم ظاهراً وفي الخفاء. وما دامت الرؤية مترجرجة أو منعدمة، فحتى لو كان الثائر نظيفاً، فإنه لا يستطيع التأثير، وتصبح النظافة هاجساً شخصياً لا غير. ومن لا يصدق ذلك فلينظر إلى حال مصر وحالتها، فهي تُغني عن كل مقال!
المصدر: جريدة الاتحاد