محمد المزيني
محمد المزيني
كاتب وروائي سعودي

بائعو أكفان السعادة

آراء

إن محاولة إضفاء بعض اتجاهات المرتبطين بالدين بشكل أو بآخر مفاهيم كهنوتية للدين الإسلامي عبر قيم الفناء وتسويقها بين جماعات تنزع للموت أكثر من ارتباطها بالأرض وعمارتها، لهو أمر في غاية العجب، وإن كان لذلك ما يمكن تبريره واقعاً، إلا أن العجب يحل بالمعنى الاستنكاري للعجز الذي يبوء به مفكرو الأمة ومستنيروها، العجز المتمثل في خلخلة هذا الاتجاه وتعريته، والأدهى والأمر وسمه بمصطلح ثقافي ومنحه صفة دلالية لا تجوز عقلاً إلا على القيم ذات الارتباط بالحياة، بمثل ما نمنح الموت وساماً تثاقفياً ونقول مثلاً «ثقافة الموت»، وهو ما تردد أخيراً عبر وسائل الإعلام وتلقفه المثقفون للتعبير حقيقة وليس مجازاً عن اتجاهات بعض المتدينين إلى نقل المجتمع من حيز الحياة بمباهجها وزينتها إلى الموت بكل سواديته وضبابيته، الموت الذي لم يستطع أحد تجلية حقيقته للناس، ليدخل في حيز الأسئلة الغامضة التي تكتنفه، ويظل معلقاً في الأذهان بلا إجابات، ليقوم بعض المغرضين بإقحامه في الطقوس والشعائر التعبدية التي لا يمكن للإنسان المتدين أن يكون متصلاً بالله وهو بعيد عنها، بهذا استطاع هؤلاء أن يقدموا بُعداً آخر لمعنى العبادة، العبادة المرتبطة بالموت مباشرة، في ثمانينات القرن الماضي وتحديداً إبان الحملة الأميركية على الاتحاد السوفياتي وتجييش كل المفاهيم والقيم من أجل تحقيق أهدافها انتشرت الكتيبات الصغيرة جداً التي قلبت وعي الناس ومفاهيمهم باتجاهات سلبية للحياة، وألقت عليهم بهالة سوداء فتحت أمامهم ثقباً صغيراً يُفضي إلى الجنة لا يرى إلا في الأحلام، فتدافع الشباب حينها بالتجاه الموت المرفوع على نعوش الشهادة. وقد تكررت صور الموت الجماعي الخلاصي على مر التاريخ البشري؛ لأن ثمة ما هو أجمل من الحياة التي لا تستحق عناء الكد فيها استثمر الدين الإسلامي هذه النوازع في نموذجه الجهادي البنائي الخلاق، ليكون في صورته الحقيقية، ملتصقاً بالحياة أكثر من الموت، مستخلصاً مفاهيمه من واقع الحياة بما يتفق مع المنطق، والعقل فتنقية الروح وتهذيبها، والرفع من قيمة الأخلاق ونشرها بين أفراد المجتمع، وجماعها جهاد النفس وردعها عن كل الصفات السيئة، وما أن تكتمل روح الأمة وتتمحور حول قيمها السامية، فإن الحياة ستبدو أمامهم ذات قيمة مختلفة فتكون قادرة تماماً على صيانة نفسها من كل المخاطر التي تتهددها ويأخذ الجهاد قيمه الحقيقية من واقعها البناء، ولن يكون ذلك قبل الإعداد الجيد المبني أولاً على حب الحياة؛ لأنها هبة الله للناس وقد أضفى عليها من روحه المقدسة في خلق الناس ذاته، فالله لم يخلقهم، كي تزهق هكذا مجاناً على عتبات المقامرين حول موائد الحروب المؤدلجة والمدفوعة الثمن لعرابيها ونخاسيها، فالإنسان الذي جاء إلى الدنيا لعمارتها من الباطن، من خلال اكتشاف ما استودعه الله فيها من علم هو الذي سيستحق عمارتها من الظاهر، وهنا تتجسد القيمة المعرفية المتضمنة في قوله وتعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين)، فالجهاد هنا أتى بناء، فدفع الله مثلاً لأمة نراها في ميزاننا الشرعي «كافرة» لإقامة الحق والعدل، هو نتيجة طبيعية لما استحكمت عليه من علوم ومعارف ومحصلة لكل ما أسسته بعقولها المنفتحة على الحياة من قوانين وشرائع لضبط النفس المستوحشة وتمدينها، وبث روح الأخلاق البشرية وقيمها الإنسانية العالية.

وصل مستوى انحطاطنا في التفكير والاستدلال والاستنتاج إلى ما يجعلنا داخل هذه الحياة الممنوحة من الله عاجزين عن فهمها وإدراكها لنبدأ كتعبير عن حالة العجز بصناعة «كفن منازل السعداء» كحيلة تجارية لتجار الموت، وجهل مستحكم من لدن بعض من يسمون أنفسهم موجهي الأمة، إمعاناً منهم وتكريساً لزحزحة الناس عن الحياة، وتقريبهم إلى الموت، ودفعهم إليه، وهي حيلة جديدة لتجريد الناس من عقولهم، وحقن أرواحهم بالتوق إلى الآخرة من دون عمل حقيقي وأخلاقي في الدنيا ومن أي بوابة كانت، العراق أم سورية ولربما بوابة مضمرة ومؤجلة إلى حينها، وهذا يأخذ معنى ذا منحنى خطِر جداً يتمثل في الاستلاب والتبعية المطلقة ليدفع الناس تالياً إلى ما يشبه الموت الجماعي بانقيادية تامة لدعاة الموت، يعزز ذاك ويحرض عليه غياب مفاهيم كالحرية والعدالة والمساواة، إضافة إلى القوانين الحارسة لها، ليظل الإنسان في بحثه عن قيمة اعتبارية له ومتى فشل عن العثور له عن مبرر كاف لوجوده، استشعر الظلم طاغياً لا مناص من مواجهته حتى لو بالموت متمثلين قول المتنبي:

كفى بكَ داءً أنْ ترَى الموْتَ شافِيَا وَحَسْبُ المَنَايَا أنْ يكُنّ أمانِيَا

تَمَنّيْتَهَا لمّا تَمَنّيْتَ أنْ تَرَى صَديقاً فأعْيَا أوْ عَدُواً مُداجِيَا

ومتى وصل الإنسان إلى هذا المنحنى الخطر فستظل احتمالية العودة إلى الحياة مرة أخرى ضئيلة جداً، فالحياة بالنسبة إليه ستتشكل من رحم الموت الذي يندفع إليه عنوة، بحثاً عن ميلاده الحقيقي، وما بين الحالين أعني الموت المفتعل الذي تجره عربات ذات عجلات ديماغوجية أو الموت المنفعل باستشعار وجودي، يدفع إليه سوء السياسات الحمقاء التي لا تلقي أدنى اهتمام له ولا تكترث أصلاً لوجوده، مستأثرة بكل المكتسبات الحياتية، يجب أن نعيد النظر في تقديرنا للقيمة الحقيقية للإنسان، وفهم طاقاته المخبوءة واستثمارها بشكل منطقي وعقلاني، كي تسد أمامه كل السبل المؤدية إلى الموت الذي سيطال تأثيره المجتمع برمته. ولن يحدث ذلك بمعزل عن إيجاد ثقافة حقيقية للحياة، لقطع الطريق أمام تجار الأكفان.

المصدر: الحياة