عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
عندما خطب الأمين العام لـ«حزب الله» قبل أسبوع، ما وجد نفسه مضطراً لتغليف خطابه بمصطلحات وتعابير كثيرة اعتاد عليها منذ عشرين عاماً وأكثر. فقد قال هذه المرة ودون تردد إنه يقاتل دفاعاً عن نظام الأسد، كما أنه يقاتل في مواجهة التكفيريين على حدوده! وليس مهماً ما قاله بعد ذلك على سبيل التعليل. فقد قال إنه يدافع عن نظام الأسد، لأن سقوطه يعني سقوط المقاومة في لبنان وفلسطين وسوريا. وهو يعني بذلك المحور الإيراني في غزة، و«حزب الله» في لبنان، والسيطرة الإيرانية في سوريا. وهذا تعليل سياسي يُرضي الإيرانيين الذين يسود بينهم منذ غزو العراق عام 2003 تيار الحرس الثوري الذي يعتمد في استمرار نفوذه الداخلي على التوسع في الخارج. وباسم هذا التوسع تنتصر الثورة، ويفوز النووي، وتنحسر السيطرة الأميركية والإسرائيلية! أما الذين لا يُهمُّهم من الشيعة انتصار المحور الإيراني أو أنهم ضده، فقد قال لهم نصرالله إنه مضطر للقتال في سوريا دفاعاً عن المقدسات الشيعية المهددة في سوريا والعراق. وكان قد قال ذلك مراراً من قبل، سراً وعلناً: إن لم نقاتل في السيدة زينب والقصير ودمشق، فسنضطر للقتال في النجف وقم ومشهد… إلخ!
لقد كان هذا الخطاب الطائفي والمذهبي حاضراً من قبل، في حلقات تثقيف كوادر الحزب، والتدريب على جبهات القتال حتى في مواجهة إسرائيل. ففي الخطاب العلني، كان الحديث يجري عن الخميني وفلسطين ويوم القدس. أما في خطاب الحلقات والتدريب فكان هناك تصريح بأن المناطق التي نقاتل لتحريرها هي مناطق شيعية. ونحن لا نقاتل في غزة إنما نرسل دعماً للمقاومة هناك. وقد ظل هذا الافتراق الشفاف قائماً في الخطاب الإيراني والعراقي وخطاب «حزب الله» إلى حين قيام الثورة في سوريا. فليس بديهياً في نظر شيعة كثيرين أن الدفاع عن نظام الأسد هو دفاع عن الشيعة. كما أن هناك كثيرين من العراقيين واللبنانيين لم ينسوا أن نظام الأسد دعم المتطرفين السنة الذين كانوا يقاتلون الأميركيين في العراق بين عامي 2004 و2008. وبعض هؤلاء المتطرفين الذين دخلوا من سوريا إلى العراق قاموا بتفجير مقامات شيعية، وأنجزوا تفجيرات ما كانت كلّها ضد الأميركيين! لكن مع الوقت، وعندما بدأ نظام الأسد يتزعزع، هب الروس والإيرانيون للمساعدة بالسلاح والمال والخبراء والخطط الاستراتيجية. وفي هذه المرحلة ظل الخطاب الإيراني وخطاب «حزب الله» ملتزماً بالحديث عن المقاومة والممانعة، وكيف ستتأثران إن سقط الأسد، وأن مقاتلة نظام الأسد هي من جانب أميركا وإسرائيل، لذلك يجب الوقوف معه. لكن عندما ازداد تزعزع النظام برزت الحاجة لدعم أكبر وصار لابد من تدخل عسكري مباشر من جانب إيران بواسطة المالكي من العراق و«حزب الله» من لبنان، وجمع كل العناصر في «فيلق» بقيادة مستقلة في سوريا بإشراف الجنرال سليماني. ويومها (أي قبل ثلاثة أشهر) كانت الشكوى قد تصاعدت من جانب أهالي المقتولين في سوريا من العراقيين واللبنانيين. لذلك ما عاد ممكناً إلا التصريح بالهوية الحقيقية للصراع. فالصراع هو من جهةٍ صراع مع الأميركيين والإسرائيليين في سوريا. وهو من جهة أخرى صراع مع السنة المتطرفين في سوريا والعراق ولبنان. وإذا كان لابد من التفصيل؛ فإن العلويين هم في الحقيقة شيعة، كما تثبت عدة كتب ألّفها شيعة لبنانيون وعراقيون وإيرانيون في العامين 2011 و 2012! وهكذا فإن «حزب الله» عندما يقاتل في سوريا فليس دفاعاً عن اللبنانيين الشيعة هناك فقط في وجه التكفيريين، بل هو دفاع كذلك عن النظام السوري العلوي، لأن العلويين شيعة أيضاً، وقد كانوا متطرفين لأن بعضهم يقول بعبادة الإمام علي، لكنهم اليوم لم يعودوا كذلك! هناك إذن ما يجب الدفاع عنه: فالشيعة وإن يكونوا أقليةً في بلاد الشام (سوريا ولبنان والأردن وفلسطين)، فهم أقلية معتبرة إذا أُضيف إليهم العلويون، وإذا جرى إقناع الأقليات الأخرى، مثل الدروز والإسماعيلية بل والمسيحيين، بأن لديهم حامياً مسلحاً في وجه التطرف السني!
إنما كيف جرى تركيب هذا «الخطاب»، وجر الشيعة العرب إليه؟ وكيف انجرّت فئات سنية لمواجهة هذا الخطاب أو الانضواء تحته؟
تجلَّى التطرف السني منذ الثمانينيات في الجهاديين الذين مضوا إلى أفغانستان، ثم إلى أقطار أخرى في آسيا الوسطى والقوقاز ووسط أوروبا. وما اصطدم الطرفان المتطرفان حتى في التسعينيات لاختلاف الساحات. فالجهاديون السنة انصرفوا بعد قتال الغرب إلى قتال الحكومات والمجتمعات في بلاد العرب والمسلمين، بينما كان جهاديو «حزب الله» منصرفين لقتال إسرائيل. وبالطبع ما دقق أحد في خطابهم، ولماذا قتلوا في الثمانينيات شيعةً ومسيحيين كانوا يتولون مقاتلة إسرائيل (حركة المقاومة الوطنية اللبنانية) منذ عام 1982. بيد أن الطرفين اصطدما للمرة الأولى في العراق عام 2005. فقد ذهب القاعديون إلى العراق لمقاتلة الأميركيين بعد أن طُردوا من أفغانستان بالغزو الأميركي لذلك البلد. وحينها كان الإيرانيون قد عقدوا العزم على الاستيلاء على العراق بعد لبنان وسوريا. ففي لبنان كان رفيق الحريري قد قُتل، وعشرات المعارضين لسوريا وإيران. وفي العراق تعاون العائدون من إيران وسوريا مع الغزو الأميركي ضد «المقاومة» السنية. وطوَّر القاعديون أيام الزرقاوي في عامي 2005 و 2006 خطاباً حاداً ضد الشيعة استعادوا فيه أدبيات مائتي عام وأكثر. وهكذا نشب نزاع سني شيعي ما استطاعت إحداثه حرب الثمانينيات بين العراق وإيران. وما حظي خطاب الزرقاوي بدعم كبير بسبب حدته البالغة، وفظائعه؛ ووقف الحماسيون والجهاديون الفلسطينيون في وجه ذاك الخطاب غير المعتاد، وكذلك الإسلام السياسي الذي كانت فئاته متحالفةً أيضاً مع إيران ضد أنظمتها.
وظل الأمر على هذا النحو إلى نشوب الثورة السورية. فـ«القاعدة» بعد مقتل الزرقاوي تراجع خطابها المعادي للشيعة، ويقال إن الظواهري مقيم بإيران منذ عام 2005. و«حزب الله» جدَّد سُمعتَه في حرب عام 2006. وفاجأت الثورة السورية الإيرانيين بقدر ما فاجأت النظام. وعندما اضطروا للتدخُّل في مطلع 2012 مباشرةً، ما عاد بوسعهم تجاهُل العامل الشيعي من أجل التبرير والتحشيد. ومع اشتداد الضربات على الثوار من جانبهم، ازدادت النغمة المعادية للشيعة في أوساط الإسلاميين المشاركين، والذين أتى بعضهم من العراق!
إنه إذن صراع المتطرفين من الشيعة والسنة، وهو شديد الخطورة. والطريف أنّ التطرف السني -بسبب تجربة «القاعدة» ومشابهاتها- مرذول، بينما يحاول الإقليميون والدوليون «التعود» على وجود تطرف شيعي، لا علاقة له بمكافحة إسرائيل، وهم يتحدثون عن «الجناح العسكري» دون السياسي للحزب باعتباره إرهابياً! بيد أن نصرالله لا يترك لهم فرصةً لالتقاط الأنفاس، وآخِرُ خطاباته يصاحبُها طموحُه للانتصار على الشعب السوري الثائر على الأسد، والانتصار على السنة الذين صاروا جميعاً من التفكيريين وأصدقاء إسرائيل! وإلا فكيف يؤيدون الثورة على نظام الأسد؟!
المصدر: جريدة الاتحاد