هالة القحطاني
هالة القحطاني
كاتبة سعودية

ثقافة الاستعباط…!

آراء

مهما تبلغ من العمر، ومهما يصل مستواك الثقافي أو التعليمي، ستستمر بالتعرض للاستغفال وستشهد أكثر من عملية يمارس عليك فيها ثقافة الاستعباط باحترافية تستمر بالتطور مع الزمن، بشكل مباشر تشعر به أو بشكل غير محسوس تدركه بعد فترة من الزمن، ولن يخفى عليك الشعور بالانزعاج الذي سيداهمك في لحظات استغفالك، ولكن في لحظتها لن تستطيع من تحديد هوية ما يزعجك، بل ستشعر بقليل من الدفء في رأسك بعد أن تضاء «لمبة» التنبيه تلقائيا في عقلك لتحذرك من أي موقف غير منطقي ترفضه، وحين تكتشف أو تتوصل لسبب هذا الانزعاج يكون قد فات الأوان، وأحيانا لا يهم عدد المرات التي يتم فيها استغفالك لأنها لن تؤلمك طالما تجهل الحقيقة، والأهم ماذا ستفعل لتتفادى مزيداً من تلك المحاولات التي أصبحت تغمرنا بمزيد من الإحباط والهزيمة، في نفس الوقت أتمنى أن لا يتهيأ لك بأن المشكلة شخصية أو تدور حول طاقتك الاستيعابية، لأن من اعتاد (استعباط) الآخرين بلا شك سيكون له مهارات متعددة يصعب تمييزها بسهولة؛ لأنها تأتي بحالة وهيئة مختلفة في كل مرة،

وربما أقرب حالة… تلك التي حملها إلينا مؤخرا مقطع فيديو لا يتجاوز الـ 24 ثانية، كان أبلغ من أي وصف ممكن أن يقال، بل رصد تسرب مياه الأمطار من سقف النفق الجديد على (طريق الملك) في الرياض، الذي من المفترض أن يفتتح الأسبوع الماضي بشكل رسمي، الجميل أن خلفية المقطع كانت فكاهية للغاية؛ حيث سجلت ردة فعل المصور وزميله في السيارة وكيفية تقبلهم للأمر وخلق تبرير بتعابير جديرة بإدخال السرور والبسمة على كل من يشاهد المقطع، الذي لم يفسح مجالاً للإحباط من توسط الموقف، ومن الممكن أن تكون الجهة المنفذة تجهل مسبقا بأن المقاول كان سيئاً ورخيصاً ولم يتقيد بالشروط والمواصفات، ومن المحتمل أن التنفيذ كان (على قد فلوسهم)!!

وتنفرد الصحة بأدوار البطولة في هذه الثقافة، التي تخرج بسيناريو مأساوي ينتهي بتفاقم حالة المريض أو مناشدة أهله وأقاربه لأهل الخير، وأغلب الحالات يصاب فيها الشعب بجلطة من القهر، كما حدث مؤخرا حين انسلخت من الإنسانية ورفضت باستمرار علاج فتاة (رقيقة الحال) من الزلفي تعاني منذ ثلاث سنوات من تقوس عظامها وتعيش وضعاً خطراً جدا، جراء قرب عظام القفص الصدري من القلب التي يفصلها عنه سنتيمترات قليلة، لتتحول من حامية للقلب إلى «مهددة» له، ووضح الأطباء أن إشكالية تقوّس العظام جاءت نتيجة إهمال العلاج الطبيعي الذي من المفترض أن يقدَّم لها، ولكن مع الأسف لم يتوفر لها لأنها من ذوات الاحتياجات الخاصة، وأهلها يعانون من ضيق اليد، فتكفل بمصروفات علاجها في أشهر مستشفيات بريطانيا (رجل في قلبه رحمة) من عباد الله من دولة مجاورة، متفاعلا مع معاناتها التي (نشرت في صحيفة إلكترونية) بالإضافة إلى تكفله بمصاريف مرافقيها في رحلة العلاج، ولا أعتقد أنه ستعجز عن توفير ذلك أشهر وزارة متخصصة في فصل التوائم حول العالم، ولكن ربما لم يصل الخبر، والأدهى ما فعلته الصحة حين تعمدت إغلاق ملف مريض كان يتعالج على نفقة الدولة بسبب معاناته من مرض (نادر) في أحد مستشفيات مدينة بوسطن، فلم توفر له علاجا بديلا ولم تتركه يكمل في الخارج، وبدت وكأنها تعاني من الزهايمر مؤخرا الذي أنساها واجب إحياء الأرواح وليس توفير المال، ولكنها دائما ما تنسى وتتقمص دور البنوك والصرافة في التحصيل!

وتقوم البنوك السعودية بممارسة نفس الثقافة برسوم بنكية، فتدعي بأنها تقدم خدمات لإرضاء العميل وهي في الأساس لا تخدم سوى نفسها، فتجدها تربط كل عملية نقدية باسم مؤسسة النقد لتبرير وتمرير حصد عديد من الرسوم غير المنطقية، وتحللها بختم (الفتوى)، وعلى الرغم من استفادة البنك بنسبة جيدة من استخدام البطاقات الائتمانية في كل عملية شراء، إلا أنها لا تكتفي بل تسحب 200 ريال من العميل كرسوم، بالإضافة إلى رسوم إدارية أو رسوم مستندات في حالة طلب قرض أو تملك تأجيري يستفيد منه البنك ليس فقط بأخذ حصته منذ البداية بل أيضا بحصة ديكتاتورية تفرض باسم رسوم بنكية، ولم نسمع من قبل بأن المؤسسة قد طبقت أي عقوبة ضد المبالغات التي تطبقها الأنظمة المصرفية في البنوك، وربما يرجع ذلك بسبب وجود لوحة في كل بنك تحمل ختم تصديق (الشريعة الإسلامية)!

وتعتبر الوعود والتصريحات التي اشتهرت بها أغلب الأمانات والبلديات في مناطق المملكة وعلى رأسهم أمانة جدة لَمِن أقوى الأمثلة على ثقافة الاستعباط التي تعرض لها المواطن مرارا وتكرارا، حيث يسمع عن التطوير والتحسين مع نزول ميزانية كل سنة بمشاريع خيالية ولا يرى سوى جثث تطفو مع عفش بيته وسيارته في أحياء وشوارع بلدته التي تجرفها السيول سنة وراء سنة، لتجف الأرض وتبقى رائحة العطن والعفن عالقة لا تغادر جوانب الطرقات، وإذا حاول أن يتناسى ويسأل عن خطة إنشاء مترو الأنفاق التي تأخرت كثيرا يأتي الرد بأنه لم يأتِ أوانها بعد، لأن جميع الجهود مكثفة على تحسين الطرق وإصلاح البنية التحتية، وتكاليف مشروع إنشاء المترو باهظة الثمن وتحتاج لدعم مالي كبير، بل لذلك لم يضعها أي من الأمناء السابقين في أي خطة عمل مستقبلية، احتمال لعدها من وسائل الترفيه وليس المواصلات!

ولا يوجد أخطر من تجاهل عدة جهات لحادثة سقوط فتاة من قطار للألعاب الأسبوع الماضي في مدينة ألعاب ترفيهية بالعزيزية في الخبر، لينتهي الأمر بنقل الفتاة بواسطة الهلال الأحمر للمستشفى، ولتكمل مدينة الألعاب نشاطها وفعالياتها دون توقف، وسينجو المالك من التغريم والمساءلة بسبب تهاونه لشروط السلامة، وعلى الرغم من انتشار الحادثة وإعلانها في أكثر من صحيفة ورقية وإلكترونية وتناقلتها وسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن تلك الجهات تصر على عدم علمها بتلك الحادثة، لأنهم بكل بساطة لم يتلقوا أي بلاغ رسمي إلى الآن، لتستمر أبواب مدينة الألعاب مفتوحة، وتستمر الحياة!

المصدر: صحيفة الشرق