محمد الرميحي
محمد الرميحي
محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت

سُلطة وليس إسلاماً!

آراء

لا يستطيع أحد أن يُخرج مسلماً من دينه بشكل مطلق، ومن الإسلام على وجه الخصوص، لو قال لنا اليوم السيد رجب طيب إردوغان، إن السيد فتح الله غولن مناوئه السياسي، ليس مسلماً، لما صدقه أحد لديه عقل راجح! هو مسلم معارض، وأيضاً له أتباع هم الآن بعشرات الآلاف في السجون التركية، مسلمون معارضون. ومنذ نهاية الخلافة العثمانية والبعض من المسلمين يرون إعادتها بشكل ما، معلن أو حتى خفي، واجباً مقدساً. كان الملك فاروق ملك مصر يطمح لأن يكون «خليفة المسلمين»! ولم يتحقق له ذلك، كما أراد «الإخوان المسلمون» في مصر أن يحققوا «الخلافة»، ولم يكن التاريخ ولا الواقع الاجتماعي والسياسي يسمح لهم بذلك، الفكرة العامة استخدام «الإسلام» في تحقيق الوصول إلى السلطة، ليس جديداً، لا على تاريخ المسلمين، ولا على تاريخ المنطقة، مثل تلك المحاولات، إلا أن العالم قد تغير دون رجعة.

الأزمة القطرية (مع الدول الأربع: المملكة العربية السعودية، والإمارات، والبحرين، ومصر)، هي أزمة كاشفة. فقد مررنا جميعاً بما سمي «الصحوة»، كما مررنا أيضاً بحكم «الإخوان» لفترة وجيزة في مصر، وحتى غيرها من بلادنا العربية، بل مررنا في هذا الجيل بصراع دموي بين سلطة عبد الناصر من جهة و«الإخوان» من جهة أخرى، عنوان كل ذلك «السلطة». الأزمة الحالية، في جزء منها، ولا أدعي في كل الأجزاء، هي ذلك الوهم الذي قررت جماعة منا أن تحمله على كاهلها بالعرض دون تبصر، إقامة الخلافة، من خلال تنظيم حديدي، وغير ديمقراطي، حتى في داخله له طابع «السمع والطاعة المطلقة» للمرشد، على ما يعتريه من مفارقة للواقع والتاريخ، ومسيرة الإنسانية، من حق كل جماعة أن تحمل «الوهم» الذي تريد، ولكن ليس من حقها أن تفرضه على الآخرين، بادعاء الوكالة عن «الإسلام»، وليس من حقها أن تلصق ذلك الوهم بالدين الإسلامي، فذلك ما يعترض عليه العاقل الرشيد بشدة، لا لسبب إلا لأنه يدخل المجتمعات في صراع عبثي، والمجتمعات العربية لا تنقصها حتى الساعة صراعات طويلة ونازفة للطاقة ومشتتة للجهد وكاشفة للضعف. أن تكون أنت مسلماً وتُخرج الآخرين من الإسلام، لأنهم لا يوافقون على خطك السياسي، فذلك أمر أقل ما يقال فيه إنه خطيئة، تقود إلى تدهور المجتمعات وتفتتها، وشرذمة الصف الوطني وتعريض الوطن إلى مخاطر. اختلف في السياسة كما تريد، ولكن لا تُلبس ذلك العقيدة.

كان يمكن أن تمر مثل تلك الأطروحات في أوقات تاريخية سابقة، لم تعرف فيها الإنسانية الطائرة والقطارات السريعة والإنترنت والتليفونات الذكية، والاطلاع في التو واللحظة على ما يجري في العالم من شرقه إلى غربه، من مخترعات وانتصارات علمية وتنموية. العصر لا يستطيع أن يحمل تلك الأوهام حتى لو اعتقد البعض ذلك. يمكن تسمية ما تمر به حركة «الإخوان» اليوم أنها النكبة الثالثة «عربياً» سبقها عدد من النكبات، أولها القصة المعروفة بين «الإخوان» وبين عبد الناصر، الذي لم يكن «معادياً» للحركة في البداية، بل قامت الحركة، بصفتها حركة «انقلابية»، بمساعدة ضباط 52 في مصر في مشروعهم، ذلك أمر مؤكد تاريخياً، وحتى عندما حلت الأحزاب المصرية التقليدية من قبل حركة 52، تم استثناء الحركة، ذلك أمر مؤكد في أكثر من مصدر، ولكن لدينا شاهد مباشر، هو المرحوم سليمان حافظ في كتابه الذي طبع أكثر من مرة «ذكرياتي عن الثورة»، وهو «الرجل الذي حمل وثيقة تنازل الملك فاروق ليوقعها الملك»، كان وزير داخلية لفترة قصيرة، وهو خلف فكرة وتطبيق قانون «حل الأحزاب» وتصحيح أوضاعها، فوافقت الأحزاب كلها (بما فيها الإخوان) على الانصياع للقانون الجديد. ويذكر سليمان حافظ أن عبد الناصر «جاء في اليوم التالي إلى مقر وزارة الداخلية، مصطحباً في سيارته السيد المرشد العام لـ(الإخوان)، ووقع الأخير على أن جماعته دعوية وليست سياسية»، وبالتالي خرجت من إطار قانون حل الأحزاب! معنى هذه الواقعة، أن عبد الناصر لم يكن «معادياً» للجماعة، وطموحها السياسي المفارق للعصر هو ما أدخلها في ذلك الصراع المر، ومن ثم نكبتها الأولى. العجيب أن النكبة الثانية تماثلت تقريباً حتى في التفاصيل، فقد وظفت الحركة رغبتها الانقلابية العارمة في الاشتراك في الثورة المصرية 2011 ثم وصلت إلى الحكم، ولكنها مرة أخرى لم تكن قد فهمت العصر، فارتكبت أخطاء قاتلة، أدت إلى النكبة الثانية، لعل من جملتها (وهي كثيرة) استقبال محمود أحمدي نجاد في مشيخة الأزهر، وقد صعقت الصورة كثيرين، وهو جالس على المنصة الأزهرية يرفع إصبعي النصر للمصورين، مع العلم أن السيد يوسف ندا (الذي يوصف بأنه مدير خزينة الإخوان الدولية) وقد وضعته إدارة بوش الابن على قائمة الإرهاب الأميركية، يقول في كتابه «شاهد على العصر» بالحرف، إنهم (أي الإخوان) ساعدوا إيران بعد الثورة بتوفير القمح ووسائط البناء والأسلحة! تلك شهادة الرجل الذي أخبرنا أنهم (الإخوان) حاولوا التوسط لإطلاق سجناء السفارة الأميركان في طهران، وكان شرطهم أن يطلب منهم السيد جيمي كارتر ذلك مباشرة، في لقاء مع مرشدهم شخصياً، ولم يفعل ذلك (مذكرات يوسف ندا). عدم فهم السياق التاريخي والسياسي أوقع التنظيم في الكارثة الثانية التي أدت إلى «رابعة»، أقصد أحداث رابعة! ثم جاءت النكبة الأخيرة بمحاولة إفهام البعض في الخليج، أنهم مناصرون لهم، وهم في الحقيقة لا يؤمنون بوجود هذه «الكيانات الصغيرة»، هي يجب أن ترحل (جميعها) في الوقت المناسب! دخل حُسن النية والمجاملة وربما النكاية وبعض التوظيف السياسي، في «تجاوز مخاطر الإخوان»، على أساس «إخواننا غير إخوانكم»! بل واستقبل بعض قادتهم في المحافل الرسمية وقدمت لهم «الجوائز والنياشين»، ومُكن كثيرون من سلك التعليم في دول الخليج، واختلط الإسلام الشعبي بالإسلام الحركي، وفرخ التنظيم عدداً من التنظيمات ذات نفس «الحلم بالوهم» مع تمويل مجزٍ.

تجربة الكويت تذكرنا أيضاً، بهذا النفس المفارق للواقع، وفي الأزمات الحادة المحيطة بالوطن يتقد الولاء (للجماعة)، فمع احتلال الكويت من نظام صدام حسين، وقف التنظيم الدولي مخاتلاً أولاً كوسيط وفشل، وبعدها موافقاً على الاحتلال، فمن زاوية نظر التنظيم أن الاحتلال (خطوة أولى لقيام الخلافة)!.

لقد أصبح الخلط بين السياسة والدين صناعة كاملة في فضائنا العربي والخليجي في العقود الأخيرة، وبدأ التكسب به يظهر حتى في وسائل التواصل الاجتماعي، كثيرون يشترون به ثمناً قليلاً! وأصبح «شيوخ الدعوة» من الصبيان الصغار نجوماً، لهم برامجهم ومؤسساتهم، بل أصبح الشكل الخارجي للشخص يغري «بالتقوى»!.

بالعودة إلى ثنائية السيد إردوغان وفتح الله غولن، فقد مهدت وساعدت تنظيمات الأخير (كان توسعها ليس بعيداً عن تشجيع السلطة العسكرية التركية بعد انقلاب كنعان إيفرين) على وصول حزب العدالة التنمية إلى السلطة، (انظر كتاب التنظيم السري لجماعة غولن، لمحمد زاهد جول)، ذلك ليس سراً، أما الصراع الذي تفجر، فهو خلاف على أي من الأشخاص يصح أن يكون «الخليفة»، وهو طريق سوف يؤدي بتجربة تركيا الحديثة إلى طريق مسدود!

الاختصار الذي يجب أن يرسخ، هو أن ما تسعى إليه الجماعات المنظمة تحت ما عرف بالإسلام السياسي هو (السلطة)، وتستعين بذلك بأي قوى أخرى، أو حتى دول، من أجل تحقيق أهدافها، وتلك الدول ليست بعيدة عن شهوة تلك الجماعات في الاستيلاء على السلطة عندهم، حتى لو أظهرت المسكنة. وهنا يحق أن نستدعي تصريح المرحوم الأمير نايف بن عبد العزيز، فقد قال في تصريح رسمي: «لقد عضوا اليد التي امتدت إليهم بالإحسان» في نوفمبر (تشرين الثاني) 2002. الانقلاب على الحليف مبرمج زمنياً، لا يوقفه إحسان ولا يؤخره تحالف! ومن يعتقد أنه خارج «شهوة التنظيم إلى السلطة» فعليه أن يراجع نفسه.

بعد هذا كله، لا بد من الحديث عن ثلاث نقاط مهمة؛ الأولى أن الأزمة الخليجية يجب أن يتصدى لحلها الرجال الشجعان، وفي البيت الخليجي لا غير؛ لأن أي سيناريو غير ذلك هو «كإدخال ثور هائج في دكان خزف»، وسوف تكون الخسارة فادحة؛ لأن كل هذه الإنجازات في الخليج سوف تتعرض لخلل دائم، وثانياً لا بد من العمل الجاد للتسريع في إيجاد منافذ سياسية مدنية حديثة لاستيعاب طاقة الشباب، الذين يختلفون عن آبائهم، فقد تعلموا وأصبحت طموحاتهم مختلفة، من أجل استيعابهم في العمل السياسي الحديث والمنظم، وتقديم خيارات أخرى لهم مدنية، حتى لا يقعوا في شبكات «المتاجرين بالدين»، حيث لا يوجد غيرها أمامهم. أما الثالثة الأخطر، فهي السعي لتمكين مصفوفة فقهية حديثة ومناسبة للعصر، فترك هذا الدين العظيم للهواة، وربما لتجار الفتوى والجهلة، هو أقصر الطرق قرباً للكارثة!

آخر الكلام:

على المستوى الشخصي يؤسفني هذا «التلاسن» بين بعض أبناء البيت الخليجي، الذي خرج بعضه، مع الأسف، عن اللياقة. كنت أظن أن هذا النوع من «التلاسن» صيغة من اختراعات الأنظمة العربية الشمولية التي يسعى موظفوها لإرضاء الديكتاتور!

المصدر: الشرق الأوسط