عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
كان الهدف الأول من الدساتير والقوانين الأساسية في المشرق منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر: الحد من الاستبداد وقدرة الحاكم على التصرف في الإدارة والمال من دون رقابة أو مسؤولية؛ إذ بسبب الإنفاق غير المنضبط بأي قيد رزحت الدولة العثمانية وأقطارها تحت أعباء مديونيات هائلة للحكومات والمؤسسات المالية الأوروبية. وقد أفضى ذلك إلى احتلال مصر وأقطار أخرى، وإلى تقييد قدرة السلطان العثماني على التصرف؛ ولذا فإن القنصل البريطاني Cunning يزعم أن الإقبال على المطالبة بالدساتير من جانب نخب الدولة، تقدم فيها اعتبار صون المال العام على اعتبار تمثيل الإرادة الشعبية. والذي أراه أنه ما كان هناك داع لهذه الفذلكة؛ لأن حق الرقابة على صرف المال العام، لا أساس له غير التمثيل للإرادة الشعبية. وقد كان الإصلاحيون الدستوريون يتداولون المقولة البريطانية: «لا ضرائب من دون تمثيل».
من أين أتت فكرة التمثيل أو حق الرقابة على إنفاق المال العام؟ الطهطاوي وخير الدين التونسي وعلي مبارك، كل هؤلاء يقولون إنها أتت من أنظمة الدول الأوروبية الديمقراطية. وبالفعل فإن الباي بتونس والخديوي إسماعيل بمصر، والسلطان عبد الحميد (الذي ألغى دستور عام 1876)، احتجوا لإطلاق سلطاتهم بمواريث السلطة والتقاليد، وتجرأ عبد الحميد الثاني باعتبار الإطلاقية هي مقتضى الإسلام وإمارة المؤمنين. وما كان طلائع الإصلاحيين ديمقراطيين كبارا، لكنهم في احتجاجاتهم على استبدادية السلطان وشاه فارس، أطلقوا من جديد مقولة الشورى المسيسة التي اعتبروها هي الإرادة الشعبية بالمعنى الأوروبي، وهي أساس مشروعية التمثيل.
وفي مطلع القرن العشرين، كان الدستوريون المتغربون قد توحدوا مع الدستوريين الإصلاحيين في اعتبار الإرادة الشعبية المعبر عنها بالدستور والانتخابات هي أساس شرعية السلطة والدولة. ومع ذلك فإن الفارق ظل واضحا بين وعي العامة الداعمة لإطلاق يد إمارة المؤمنين، والنخب الإصلاحية التي قالت بضرورة الدستور الشوروي لإصلاح إدارة الشأن العام؛ فقد قال محمد رشيد رضا معلقا على رسالة حماسية من أحد قراء «مجلة المنار» مؤداها أن الشورى هي الحكم الدستوري، وهي الديمقراطية: إنه لولا الاعتبار بأحوال الأوروبيين، «لما عرفت أنت وأمثالك أن حكم الشورى هو الحكم الدستوري»!
وهذا الوعي القوي بالتاريخ والتقليد هو الذي دفع الأزهر والشيوخ التقليديين لإدانة كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» (1925)، على أثر إلغاء مصطفى كمال للخلافة (1924)؛ إذ قال عبد الرازق إن دعوة النبي (صلى الله عليه وسلم) هي دعوة دينية، وإن الخلافة اصطلاح من جانب الصحابة الأوائل، ولا علاقة لها بالدين! وكان عبد الرزاق السنهوري، الفقيه الدستوري الكبير هو الذي حل هذا الإشكال عندما ربط الخلافة بالأمة الإسلامية، واعتبر أن ما يأتي بعدها ينبغي أن يكون «جمعية أمم» أو شعوب إسلامية، على شاكلة منظمة المؤتمر الإسلامي فيما بعد. أما الحكومات الإسلامية الوطنية فتقوم على الشورى والتمثيل؛ وذلك لثلاثة أسباب: الآيات والآثار الواردة في ذلك، ولأن الراشدين أنشأوا نظاما تمثيليا اعتبره المعاصرون في القرن الأول أمرا بديهيا ومتلائما مع ميراث النبوة والرسالة؛ ولأن العالم كله يتجه نحو النظام التمثيلي، وفصل السلطات، وتداول السلطة.
وما زال الالتباس بالطبع بين شرعية المجتمع القائمة على الدين والأعراف والتقاليد – وشرعية السلطة والدولة التي تتصل بالدين بسبب ما. لكن التجربة الدستورية كانت في عز ازدهارها، وهي التي تقول (بحسب عبد الله العلمي) إن الدستور والبرلمان هما من تعاليم القرآن! لقد بدا رغم كل شيء أن الشرعيتين (المجتمع والدولة) تتكاملان. وهذا هو الأمر (أي التعاضد والتكامل) الذي اتجه الإسلاميون الجدد للتشكيك فيه؛ فقد اعتبرت جمعيات الهوية وأحزابها (مثل الشبان المسلمين، والإخوان المسلمين) أن النقص في الشرعية استجد على المجتمعات بسبب التغريب القوي، وبالتالي فإنها ما عادت مأمونة على الدين، فضلا عن أن تكون مأمونة على إدارة الشأن العام أو انتخاب المفوضين بالقيام على ذلك.
وهكذا لا بد من إعادة «تربية» المجتمعات لإخراجها من إسار الغزوين العسكري – السياسي، والثقافي. ولأن عملية كهذه تطول وتطول، فيمكن الدخول في الاغتيالات والانقلابات. وهذا هو سبب تأييد «الإخوان» لثورة 23 يوليو (تموز) 1952؛ فقد أرادوا معاقبة طرفين: العامة المصرة على انتخاب حزب الوفد لما يزيد على الـ30 عاما، والأحزاب السياسية التي كانت تجتذب الجمهور؛ في حين يعجز الإسلاميون وحلفاؤهم عن الفوز بأي مقعد!
ومن الطريف أن التجربة السلبية مع الضباط ما دفعت الإسلاميين لإساءة الظن بالسلطة السياسية؛ فقد ظلوا يعتقدون أن الشريعة ينبغي أن تؤخذ من المجتمع وتسلم للدولة، لكي تمضي قدما في تطبيقها، وقد ظلوا يقبلون أن يكون جعفر النميري الضابط ورئيس السودان الأسبق، هو القائم على تطبيق الشريعة؛ في حين لا يأمنون المجتمع على دين الله وشريعته، بل يرجون أن تقوم السلطة بالتطبيق، حتى إذا وثقوا بأنفسهم أكثر صاروا هم الذين يريدون تطبيق الشريعة، ولا أحد سواهم. ودائما على المجتمع الذي يستعينون به اليوم للتحكم بالدولة، ثم استخدام الشريعة أو دعاواها في مواجهته!
أين هي الشريعة التي يراد تطبيقها؟ المفروض بحسب المقولة الكلاسيكية أن الشريعة في الجماعة، فالله سبحانه وتعالى يقول: «وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون». ويقول: «اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا». فالشريعة هي الشرعية التأسيسية للجماعة، بمعنى الاحتضان المتبادل للدين والإيمان. وشريعة الله ودينه اعتقادات وعبادات وأخلاق وأحكام لبعض المعاملات. والاعتقادات والعبادات والأخلاق سائدة ولا يمكن لأي سلطة مهما تعاظمت تطبيقها بالقوة وبالإرغام، وإلا لما عاد الأمر دينا. أما الأحكام فقد كان الفقهاء والجهاز القضائي القائمين على الإنفاذ، والأمر اليوم مشترك بين البرلمانات والقضاة، فلماذا الذهاب إلى عدم اكتمال شرعية المجتمع، وتعليقها على اجتهادات الإسلاميين وأفكارهم وأنظمتهم، ثم ربط «اكتمال» الشرعية بوضع المقدس في يد «السلطة السياسية» التي من المفروض أنها تداولية؟! وهذا يعني أننا نجعل وحدة المجتمع وشرعيته في مواضع الانتقاص والتنازع. ويضاف إلى ذلك أن السلطة السياسية التي ينبغي أن تدير الشأن العام من طريق إرادة الناس، توضع تحت سيطرة فئة أو حزب سياسي – ديني، لا يمثل غالبية الناس، فضلا عن أنه ليس في الدين أكثرية وأقلية.
يقول «الإخوان» إنهم يريدون أن يكون الإسلام دين الدولة لكي تحظى بالشرعية، بينما يقول السلفيون بمصر إنهم يريدون أن تكون الدولة دولة الدين لكي تحظى بالشرعية أيضا. وكلا الأمرين يؤدي – بخلاف ما يحسب الإسلاميون – إلى تحكم الدولة أو النظام السياسي بالدين، وهما من طبيعة مختلفة، ولا بد أن يطحن أحدهما الآخر. ونحن نعرف أن محاولة الكنيسة الكاثوليكية التحكم بالدولة أدت إلى تقسيم الدين إلى كاثوليك وبروتستانت. وبسبب الحرص على وحدة الدين وسلامته بالاستفادة من التجربة الأوروبية السلبية بين المزج التام فالفصل التام، عمد الكونغرس الأميركي عام 1774 إلى النص في الدستور على منع السلطات التشريعية أو التنفيذية من التدخل في الشأن الديني ولو بحجة نصرة هذا الأمر أو ذاك مما يريده بعض المتدينين.
علاقة المجتمع بدينه قائمة على الإيمان، وعلاقة المجتمع بسلطاته السياسية قائمة على التمثيل وإدراك المصالح. وتأبط الدين نصرة له أو استخداما في الصراع السياسي، مضر به إضرارا شديدا، «والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون».
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط