ضاع «الراتب» بين الإنتاجية والغلاء والقروض

آراء

أصدقكم القول؛ إنَّ الحديث حول عدم كفاية ”الراتب” لمقابلة متطلبات المعيشة المعقدة، قد تمرّغ في وحْل الملل والتكرار والإحباط! أُثبتَ بالإحصاءات الرسميّة أنّه لم يبق منه إلا بضع أشلاءٍ متناثرة، لا تُسمن ولا تغني من جوع. قابل كل تلك النقاشات والتحليلات المستفيضة، صمت مطبق من لدن الأجهزة المعنيّة بالرد والإيضاح، بدءاً من وزارة المالية مروراً بوزارة الاقتصاد والتخطيط وانتهاءً بوزارة العمل!

التصريح اليتيم الذي صدر: أنّ إنتاجية الموظف السعودي متدنية! كتبريرٍ لمستوى الراتب على هيئته المهترئة الراهنة، بمعنى أنّ السبب وراء تدنّي الراتب هو انخفاض الإنتاجية. حمل هذا التصريح من وزارة الاقتصاد والتخطيط ”اعترافا” صريحاً ورسمياً بتدنّي مستويات الرواتب، أيّ أنّه يؤيد نتائج تقييم الراتب بوضعه الراهن، وفقاً لما أظهرته الإحصاءات الرسميّة الأخيرة، والتي بناءً عليها استند الكاتب وغيره من أصحاب الرأي بتدنّي مستوى الراتب!

بالنسبةِ إلى مقولة الوزارة بانخفاض إنتاجية الموظف، وأنّها السبب وراء تدنّي مستوى الراتب! فهذه قصة أخرى تستوجب حديثاً موسعاً وعميقاً، سبق أنْ تناوله الكاتب في أكثر من مقام! لعل أبرز ما يجب ذكره في شأننا هنا ما يلي من نقاط :

(1) أنّ التصريح يتناقض تماماً مع تفسير الوزارة لأسباب النمو الاقتصادي المرتفع خلال السنوات الأخيرة، والذي دائماً ما ترجعه إلى ارتفاع إنتاجية عوامل الإنتاج في الاقتصاد المحلي. أليست ”العمالة الوطنية” من ضمن تلك العوامل؟! ولكن هل هو في الأصل، صحيحٌ أنّ تلك العوامل فعلاً وراء هذا النّمو؟

(2) نعلم جميعاً أنّ المصدر الرئيس للنمو الاقتصادي المتحقق خلال الفترة الأخيرة عائدٌ بصورةٍ كبيرة إلى ارتفاع أسعار النفط، وأنّها السبب الأكبر ـــ إن لم يكن الوحيد ــــ وراء ارتفاع الإنفاق الحكومي، وتحديداً على مشروعات البنى التحتية، وانعكاسه إيجابياً على القطاع الخاص، فليس سرّاً نفشيه هنا أنّ ”النفط” هو العامل المحوري وراء تسارع النمو الاقتصادي أو تباطئه!

(3) إذاً والحال تلك؛ يتبيّن لنا أنّ إنتاجية أغلب عوامل الإنتاج البديلة للنفط، أبعد ما تكون عن لعبها دوراً مباشراً في تحقيق معدلات النمو الاقتصادي. هذا حديثٌ استفاضَ فيه أصحاب الرأي الاقتصادي الحديث كثيراً، وتدركه وتعيه وزارة الاقتصاد والتخطيط أكثر من غيرها من الجهات الحكومية، وأنّ هيكلة الاقتصاد الوطني بوضعها الراهن تقوم أغلب ركائزها على ”النفط”، وأنَّ ما عداه من الصناعات التحويلية لا يتعدّى عشر الاقتصاد الوطني، وأنّ الصادرات غير النفطية إلى إجمالي الصادرات هي أدنى أيضاً بقليلٍ عن عُشر قيمتها، وأنّ أغلب احتياجات الاستهلاك المحلي يتم توفيرها من واردات الخارج، التي تتجاوز بقيمتها 3.1 أضعاف الصادرات غير النفطية، وأنّ العمالة الوافدة تمثّل تسعة أعشار العمالة في القطاع الخاص، وأنّ تلك العمالة الوافدة أيضاً تتشكل في تسعة أعشار منها من حملة الشهادات الابتدائية فما دون، وأنّ القطاع الخاص خلق تلك الوظائف المتدنية لأنّه لا يملك سواها، وأنّ السبب وراء ذلك أنّ القطاع الخاص يعتمد لأجل تحقيق أكثر من ثمانية أعشار دخله على المناقصاتْ الحكومية والاستيراد بالجملة والبيع بالتجزئة! وما حاجته بعدئذ في كلا المجالين إلى أكثر من عمالة بالكاد تقرأ وتكتب؟!

(4) إذاً نحن أمام تضاريس خريطةٍ للاقتصاد الوطني؛ سهولها وجبالها وسواحلها ووديانها وكل إحداثيةٍ فيها، تنبئ عن الأثر العميق والرئيس للنفط وما يتبعه. وعليه في ضوء هذا الواقع الاقتصادي المعتمد بصورةٍ رئيسة على النفط، علينا استبدال مصطلح ”الإنتاجية” بمسمّى أقل تعقيداً وأكثر مصداقية ”أسعار النفط”، كسببٍ رئيس وراء كل ما يجري على مستوى مختلف الأنشطة الاقتصادية.

أنتقلُ الآن للحديث المكرر عن ”الراتب”، وقد تبيّن لنا أنّه متدنٍ بصورةٍ لا تقبل النقاش، وهو ما أيّده اعتراف الأجهزة الرسمية بذلك، بغض النظر عن السبب الذي تبيّن أيضاً أنّه لا يمتُّ بأي صلةٍ تذكر كما تم إيضاحه أعلاه. لتعلم مقدار هذا الانخفاض في القوة الشرائية للفرد، فإنّه وفقاً لمعامل الانكماش منخفضٌ بنحو – 54.8 في المائة، أضعفته كثيراً أمام الزيادة المطردة لأعباء المعيشية، وأوصلته إلى شبه عجزٍ تام، ألجأت تلك الظروف مجتمعةَ أغلب الأفراد إلى الاقتراض، ليصل تحت تلك الضغوط المضاعفة إلى واحدةٍ من أسوأ وأعقد المراحل المعيشية.

وفقاً لآخر البيانات المتعلقة بالقروض الاستهلاكية المقدمة من النظام المصرفي بنهاية الربع الثاني من العام الجاري، زائداً قروض نظام الظل المصرفي، يُقدّر أن يتجاوز إجمالي تلك القروض التي يتحمّلها الأفراد في المجتمع سقف الـ 659 مليار ريال ”تتجاوز 25 في المائة من حجم الاقتصاد المحلي”.

لقد وصلتْ الحال المعيشية المعقدة الظروف لدى الأفراد، إلى مستوى لم يعد مقبولاً على الإطلاق القبول بهذا الصمت المطبق من لدن الأجهزة الاقتصادية والمالية المعنيّة في البلاد تجاهه! ما يتطلّب موقفاً مسؤولاً عالي الأمانة من لدن أجهزتنا المحلية تجاه هذه المعضلة التنموية، وإنّه مما يدعو إلى نوعٍ من التفاؤل أنّ الإمكانات المالية متوافرة بصورةٍ تتيح أمامها العديد من الخيارات الملائمة، فلم يعد أمامها إلا أن تبادر بأداء مهامها ومسؤولياتها اللازمة، وأنْ تعلم جيداً أن أي تأخيرٍ أو تجاهل لتلك التحديات الجسيمة، يعني في الوقت ذاته أنّها تقلّص على نفسها مساحة الخيارات من جانبٍ، ومن جانبٍ آخر قد تكون على موعدٍ مع آثارٍ أكثر خطورة مما هي عليه في الوقت الراهن.

المصدر: الإقتصادية