عبدالله المغلوث: قطعة السكّر في مقهى الحياة المرّة ! – عمر المضواحي

أخبار

يأتي دائما في الموعد، كقطعة سكر تغازل كوب ساخن في مقهى حياتنا المرّة. أو كفارس نبيل فوق صهوة محبة، يشق برمحه أستار اليأس بكلمات بيضاء. أو كروح سكيّنة تغشى لحظات الضعف والقنوط والعدم، ليبلغك باختصار: أنك لست وحدك!.

هو أشبه الكتاب الصحافيين بقارئي الكف والورق وبقايا الفناجين الباردة. قلمه نادر ومن نوع خاص، ريشته مخروطة من فلز السعادة، وخزان حبره يفيض دوما بلغة الفرح وتسويق الآمال بأن الغد هو حتما أفضل من بقايا الأمس، وفلول اليوم الحزين.

أختار منذ البدء، وعن سابق عمّد وترصد، أن ينثر حلاوة التفاؤل في أفواه المهمشين والمنسيين، وأن يجبر خواطر المنكسرين خلف مسرح الحياة الصاخب. كل من تابعه في بداياته الأولى في منتصف التسعينيات، كان يدرك أن خلف هذا القلم الجديد، عالم جديد، بحبر جديد، وطعم جديد.

بضاعته نادرة في زمن الأنانية والشعور بالوحدة. ودائما ما يبحث بعين قناص حاذق للكتابة عن تفاصيل تجربة جريئة، أو روح وثابة نحو عالم أفضل، أو عن ملوحة دمعة حارقة سفحت على خد محتاج ضاقت به السبل، وأغلقت دونه الأبواب.

وطوال رحلته مع الحرف والكلمة،كان أمينا لعشقه الأول الصحافة، ولم يتأخر يوما عن نفخ روح الحياة والتشجيع في قلم كل موهبة في بلاط صاحبة الجلالة. وأغلب جيل الشباب يدينون لكلماته وقصصه عنهم، وبأنها كانت أول وسام وشهادة تقدير، واليد المشجعة التي دفعتهم لمواصلة المشوار في دروب مهنة المتاعب.

ظل عبدالله إبن الفنان التشكيلي البارز أحمد المغلوث، يرسم بقلمه عالما واقعيا يستمد بهاء جماله من تفاصيل حياتنا اليومية. لم يتعب قط، من إقناع قرائه بخلع النظارة السوداء، ليروا نعم الجمال وقطوف السعادة دانية من حولهم، وأنها أقرب إليهم من كل ما يحيط بمشاعرهم من كثبان القنوط، وأرتال اليأس، وحجارة القلوب الجافة.

يختار نماذجه دوما من أشخاص يشبهوننا ونشبههم، يتنفسون الهواء الذي نتنفسه، ويحملون قلوبا مثل التي نحرسها خلف أقفاص صدورنا. يبكون ويضحكون، يحلمون ويحبطون، ينجحون ويخسرون، ليقدمهم في كلمات بسيطة، مشحونة دوما بالحب والإعجاب والأدلة الدامغة بأن “في هذا العالم ما يستحق العيش لأجله”.

لطالما أحاط هذا الشاب الطويل، بكفيه النحيلان وعقد أصابعه النافرة، بصيص شموع تجارب البسطاء، ليقدم لقرائه لقاحا طازجا، يساعد على إنتاج وتكاثر كريات الأمل البيضاء في عروق واقعنا المعاش. لم يحاول يوما أن يتقمص وجها غير وجهه. ولا صوتا غير صوته، ولا ثقافة أو أسلوب حياة غير ما أعتاده في مرابع صباه بين واحات النخيل، وخمائل الكنار، وحقول الأرز الأسمر.

له أسلوبه الخاص في الحياة، ودائما ما يفاجئ الأهل والأقارب والأصدقاء برسائل نصية صغيرة، يكنز فيها مشاعره الجميلة، ويطلقها كغشقة عطر تفوح بهجة وسرورا في قلب متلقيها، ليشعره أنه ليس وحده، وأن هناك من يفكر به بحب ورعاية خاصة.

يميل الى استلهام القواعد المحفزة للطاقة الإيجابية في نفوس البشر، ولا يتورع عن إعلان الحب على الناس عبر حروفه الفاتنة ودعمه الغفير. وهو مؤمن بقول الفيلسوف الألماني ( ليبيتنز) بأن “الحب هو أن نضع سعادتنا في سعادة شخص آخر”.

كان الشباب والصبايا، إذا ما دهمهم وباء الإكتئاب لا تأخذهم اقدامهم الى صيدليات الطب النفسي. كانوا يتوجهون الى أقرب مكتبة ليبتلعوا ورقة أو ورقتين من كتبه الخمسة، ليعود وهج شعلة حياتهم من تجاربهم الفاشلة، ويبدأوا من جديد.

تستهويه لعبة اكتشاف الأحجار الكريمة في شكلها الخام، ليمارس عليها فنون الصقل كجواهرجي عتيق. وفي مقاله الأسبوعي، تجده دوما يختار الكتابة عن نماذج مميزة لكن قدرها أن تعيش على الهامش وفي غياهب الظل الإعلامي، ليجعل من قلمه حزمة ضوء ساطع يكشف مكامن الجمال فيها، ويبرز جوهر معدنها الأصيل.

في أغسطس 2010 ألتقط قصة “فواز أحمد عامر سعد ” وهو طالب متفوق في جامعة أم القرى في مكة المكرمة لينشرها تحت عنوان لافت ” تعرفوا على مدير جامعة أم القرى عام 2020″. بعد أيام قليلة، أثمرت شجرة المحبة، وفاح عطر الوفاء والإمتنان، عندما نشر والد الطالب نيابة عن عائلته تعقيبا طويلا ومؤثرا في صحيفة الندوة.

قال والد “فواز” إن عبدالله المغلوث هو عنوان بارز بين كتاب اليوم ” ليس من أجل مقاله عن إبني، بل لأنه يلبس نظارة الإيجابية والأمل، النظارة التي عجز الكثيرون عن ارتدائها ليصف لنا أجمل المناظر التي يراها ويزخر بها وطننا العريض والكبير في كل شيء”.

لم يكتف عبدالله بتقديم دروسا في النماذج الإنسانية المضيئة، بصرف النظر عن العرق والجنس واللون، بل يحسب له أيضا، أن قصصه الصحافية التي نشرها في عدد كبير من الصحف والمجلات الورقية والإليكترونية، ذات أسلوب مبتكر في الكتابة الصحافية، وهي دروسا مجانية للجيل الجديد من الصحافيين والكتاب.

كتابه الأول ” أرامكويون من نهر الهان الى سهول لومبارديا” هو أيضا درسا نموذجيا في فن كتابة القصة الصحافية الناجحة، وشكلا مطورا لكتابة أدب الرحلات، وقبل ذلك وبعده هو درسا عميقا في كيف يكون الصحافي إنسانا ذو قلم شفيف وصادق ومحب في المقام الأول.

وفي كتابه الآخر (الصندوق الأسود.. حكايات مثقفين سعوديين) إجترح عبدالله المغلوث أسلوبا مبتكرا في فن الحوار الصحافي، وقدم تفاصيل (سريّة) وحكايات ما وراء الحكاية عن حياة تسعة من أشهر الشعراء والكتاب والإعلاميين المعاصرين في الحركة الثقافية السعودية، بصورة لم تعرف عنهم من قبل.

لم ينتظر يوما كلمة “شكر” من أحد. فكافأه محبوه وقراءه بأن خصصوا له حسابا مفتوحا في مجتمع (الفيس بوك) الإليكتروني تحت عنوان (روائع عبدالله المغلوث) يسطرون فيه كل حركة وسكنة لكاتبهم المفضل، ويرسمون صورة تقارب حقيقته كفلاح أصيل يحرث بقلمه في وجدان قارئيه، ليزرع خمائل الحب الخضراء في عيون الإنسانية.

في السنوات الأخيرة، يبذل عبدالله المغلوث المولود في الأحساء العام 1978م، كل طاقاته لنيل درجة الدكتوراه عن أطروحة في الإعلام الرقمي من جامعة سالفورد في بريطانيا، بعد أن حصل على درجة الماجستير في تقنية المعلومات والإدارة من جامعة كلورادو الأمريكية، وقبلها تخرجه في جامعة ويبر ستيت بولاية يوتاه في الولايات المتحدة الأمريكية في التسويق والإعلام.

سعيه الدءوب لتحصيل العلم لم يمنعه من ممارسة هوايته القديمة، وظل ينشر قصته الأسبوعية في صفحة الرأي في صحيفة “الوطن” كـ “بوكيه ورد” في عيون القراء، لتفجر مكامن الفرح والافتخار في نفس صاحبها وعائلته ومحبيه، لينزوي بعيدا خلف ضباب بريطانيا ليبحث من جديد وبدأب شديد، عن قصة ينشر فرح حروفها في العدد المقبل.

في الرابع من ديسمبر 2010م، سطر مقالة بديعة تحت عنوان “كم عمر أصغر مسؤل لدينا؟!” http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleId=3409 ناقش فيها ببراءة أهميّة أن يكون المسؤل في عمر المستفيدين من خدمات مسؤلياته.  وجد باباراتزي الكراهية فرصتهم، وأخرجوا المناجل لقطف الوردة البيضاء في حقل صبّار الرأي السعودي. كان وحيدا لخمسة اشهر، قبل أن تعود غاردينا قلمه لحقلها الجاف إنتظارا ولهفة.

عبدالله المغلوث، إنسان معجون من لحم ودم. في عينيّه بقايا أحلام ناقصة، ومع ذلك يكتم أحزانه، ولا يسمح لأحد أن يقترب من لحظة ضعفه البشري. قبل سنوات فقد أحب أشقائه إليه في حادث مؤسف. لم يجرؤ على مواجهة قلوب المحبين الذين كانوا يبحثون عنه ليحضنوه ويربتوا على كتفيه، وفاء لدينه القديم، وغيضا من فيض مشاركته الوجدانية المشرعة للجميع.

بعد أيام ظهر قلمه في منتدى جسد الثقافة الإليكتروني تحت معرف رمزي (وجه الخير) شكر في كلماته “كل من تكبد عناء الرد، ونزف حروفا بيضاء، حلقت عاليا وأشعلت قناديل الطمأنينة” وأختتم رده الموجز بكلمة تشبهه كثيرا، وقال ” لكم الفرح وحده!”.

بالأمس(الخميس 29نوفمبر 2012م)، أطلق تغريدة مودّع في حسابه الشهير في تويتر. “تقدمت أمس بخطاب اعتذار عن الكتابة في صحيفة الوطن بعد نحو 10 سنوات كاتبا فيها. لهم ولكم وافر الشكر والامتنان”. قرر غاردينا صفحات الرأي المغادرة بتحفظ هادئ، فضجّ حقل تويتر، وتمددت جذور الهاشتاقات، ليعلن محبوه أن جميع أكوابهم الساخنة، ستبّرد حزنا وعلقما، على فقدان آخر قطعة سكر!.

خاص لـ (الهتلان بوست)