رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

عذابات المسلمين في لبنان

آراء

انفجر الموقف في صيدا بعد ظهر الثلاثاء 18 / 6 / 2013 لأن أحد مسلحي «سرايا المقاومة» في المدينة تحرش بشقيق الشيخ أحمد الأسير بإطلاق النار على سيارته. وفي حين كانت الاشتباكات مشتعلة بين عبرا (إحدى ضواحي صيدا)، وحارة صيدا (الحي الشيعي بطرف المدينة)، أقبل شبان في طرابلس على إقفال الطريق بين القبة وزغرتا بالإطارات المشتعلة، احتجاجا على الاعتداء على الأسير بصيدا. وقبل ذلك بيوم واحد اشتعلت منطقة بعلبك – الهرمل من حول بلدة عرسال، لأن أربعة قتلوا من أبناء عشائر المنطقة وهم يحاولون تهريب المازوت إلى سوريا. وقد اتهم أهل القتلى العراسلة بأنهم كانوا وراء مقتل أبنائهم، وهددوا بغزو بلدة عرسال إن لم يسلم إليهم الذين قتلوا أبناءهم! وعندما أنكر أهل البلدة أن يكونوا هم الذين ارتكبوا تلك الجريمة، قيل لهم: لكنكم تعلمون على الأقل من قتلهم! وفي الشهور الماضية، بل ومنذ أكثر من عام، يقتل أهل عرسال (وعكار وطرابلس) على الطرقات أو في الجرود إما بالقتل المباشر، أو بالطائرات التي يرسلها النظام السوري، لاتهامهم بدعم الثورة السورية، أو لأنهم يؤوون اللاجئين وبينهم جرحى من المشاركين في الثورة. وقد لجأ إلى عرسال بعد سقوط القصير نحو الأربعة آلاف، أكثرهم من النساء والأطفال والجرحى. ويبلغ عدد سكان عرسال 35 ألفا، لكن عددهم تضاعف بسبب كثافة اللجوء السوري إليهم لأنهم الأقرب إلى منطقة حمص وجوارها، ولأن الهرب إليهم (على صعوبته) أسهل من الهرب إلى عكار على المقلب الآخر، للقدرة على الاختفاء المؤقت في تلك الهضاب الصخرية والحرجية السامقة.

اعتبر أهل عكار وعرسال نشوب الثورة السورية فرجا وإنقاذا، لأن النظام السوري حط على رقابهم منذ خمسة عقود. فكل المسلمين في لبنان، وبعض المسيحيين، عانوا من نظام الأسد بعد عام 1975؛ أما أهل البقاع الأوسط وعرسال في أقصى الشرق وعكار في أقاصي الشمال؛ فإنهم يكادون يكونون جزءا من الداخل السوري، وكل عهد في سوريا له معهم (ومع عشائر الهرمل الشيعية) أقاصيص تبلغ حدود الأساطير. وما كان اللبنانيون يحسون بمآسي الناس في تلك المناطق، إلا من خلال ما كان يحدث ولا يزال في مدينة طرابلس. فمنذ السبعينات من القرن الماضي تمركزت عناصر المخابرات السورية في منطقة بعل محسن العلوية السكان، وحاولت من خلالها إخضاع المدينة المشهورة بقوميتها العربية الناصرية، ثم بجامعاتها الإسلامية الأصولية والسلفية.

إن المهم القول هنا أن ما اعتبره أهل عكار وعرسال وطرابلس فرجا ورحمة ما كان كذلك على الإطلاق، وذلك لثلاثة أسباب: الأول، أن المليون سوري الذين لجأوا إلى لبنان خلال العامين الماضيين، انتشر ثلاثة أرباعهم في المناطق الإسلامية المتاخمة للحدود أو غير المتاخمة. فكما في حالة اللجوء الفلسطيني من قبل (1948، 1967)، لقي هؤلاء البؤساء ويلقون استقبالا في مناطق السنة لا يلقونه في المناطق الأخرى. وقد سمعت قبل يومين وزير الشؤون الاجتماعية اللبناني يقول إن «التهجير» منظم ولأسباب طائفية وسياسية. إنما على أي حال، فإن سكان المناطق الإسلامية تضاعف عددهم في العامين الأخيرين، وما بدأت المساعدات العربية والدولية تأتيهم إلا منذ عام على وجه التقريب. ولذا فإن مناطق اللجوء (وهي مناطق فقيرة في الأساس) عانت وتعاني معاناة شديدة من شتى الوجوه. والسبب الثاني، أن حزب الله انحاز لنظام الأسد منذ البداية. وعندما قامت الثورة السورية، كان الحزب وحليفه الجنرال عون مسيطرين على الحكومة اللبنانية، وعلى المؤسسات الأمنية والإدارية. ولذا فإن الحزب اشتدت ضغوطه (البادئة منذ اغتيال الحريري عام 2005) على سكان مناطق اللجوء السنية، التي كان قد أنشأ فيها تنظيمات سماها «سرايا المقاومة» يتصدر فيها قبضايات محليون يزودهم الحزب بالمال والسلاح. وبلغت الضغوط ذروتها بدخول حزب الله بمقاتليه إلى سوريا لحماية ظهره، كما قال حسن نصر الله. ومن الطبيعي أن تعتبر عرسال، والقرى السنية الأخرى على الحدود شوكة في خاصرة «محور المقاومة والممانعة» الممتد من طهران إلى رأس الناقورة على البحر المتوسط. والسبب الثالث، نجاح نظام بشار الأسد وحلفائه الروس في اعتبار كفاحه هو العلماني المتنور كفاحا ضد الإرهاب والتطرف. وهو كفاح أدخل نصر الله نفسه طرفا فيه عندما زعم أنه إنما يتدخل ضد السوريين الثائرين، لأنهم تكفيريون.

وما كانت هذه المعاناة التي لا تكاد تصدق في بلد مثل لبنان، لتبلغ الذروة أو القاع الذي بلغته، لولا التصفيات السياسية والأمنية خلال السنوات الثماني الماضية. فقد اغتيل رفيق الحريري عام 2005، ومنذ ذلك الحين تعرض المسلمون وحلفاؤهم المسيحيون لموجة من الاغتيالات حصدت عشرات من السياسيين وأهل الرأي والمثقفين، ورجال الأمن، وآخرهم اللواء وسام الحسن. وفي ثلاث حكومات بعد نجاحين في انتخابات عامة، ما أمكن لحكومة أن تسير مسارا طبيعيا أي برلمانيا حتى عندما يكون حزب الله جزءا منها وتحت اسم الوحدة الوطنية. فقد تعطلت حكومة الرئيس السنيورة الأولى بانسحاب الوزراء الشيعة، ثم سقطت باحتلال حزب الله لبيروت بالسلاح. وما استطاعت حكومته الثانية العمل رغم تسوية الدوحة، لتعطيل حزب الله وعون العمل فيها من خلال ثلثهم المعطل. وجاءت حكومة الرئيس سعد الحريري على أثر انتخابات ناجحة وتوافق على حكومة وحدة وطنية، لكنها أسقطت بالقوة، لصالح حكومة انفرد بها الحزب وحلفاؤه برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي خلال السنوات الثلاث الماضية على وجه التقريب. وخلال هذه الفترة، وبخاصة بعد عام 2008 ما عادت هناك مؤسسة دستورية أو غير دستورية تسير على سوية معقولة، ومن ضمن ذلك مرافق الدولة وجهاتها السيادية والرمزية مثل المطار والمرفأ ووزارات الطاقة والاتصالات والخارجية والأجهزة الأمنية وبعض العسكرية. وقد صار مألوفا أن تطلع الصحف بعناوين مثل الحزب غاضب على رئيس الجمهورية، أو لا حكومة من دون الحزب! ولماذا نذهب بعيدا؟ فالمنصب الرئيس لأهل السنة هو رئاسة الحكومة، وهو منذ عام 2008 إما معطل أو تحت سيطرة الحزب وبذلك يصبح أكثر تعرضا للاستغلال!

تجري كل يوم على وجه التقريب أحداث قتل أو تصدع في المناطق السنية بلبنان، وإن ليس في المناطق السنية وحدها. ومع ذلك فلا يزال كثيرون ينتظرون الانفجار الكبير بين السنة والشيعة، وعلى خلفية تدخل الحزب في سوريا، وضغوطه الشديدة في السياسة والأمن على المجتمع اللبناني بعامة، والمجتمع السني على وجه الخصوص. وفي حين تنهار لدى المسلمين حتى الجمعيات الخيرية والتعليمية تحت وطأة الاستنزاف والاستهداف، لا يزال كثيرون يربطون نجاة لبنان أو هلاكه بمسلميه ومسيحييه، بما يحدث بالجوار في سوريا والعراق!

الأستاذ وليد بيك جنبلاط اقترح قبل يومين حكومة وحدة وطنية (!) فيا شيخ وليد، لقد جربنا معك حكومات وحدة وطنية كثيرة من دون فائدة، وجربت من دوننا حكومة للحزب والحزب وحده (مع جبران باسيل بالطبع!)، فازداد الوضع سوءا. أما نحن فسنعتصم مع أهل عرسال، وأما أنت يا وليد بيك فحفظك الله من كل سوء!

المصدر: صحيفة الشرق الأوسط