عمار بكار
عمار بكار
كاتب و أكاديمي متخصص في الإعلام الجديد

عندما تعرف الحكومات كل ما تفكر به!

آراء

“إذا كان فيسبوك يعرف ما تقوله، فإن جوجل تعرف ما تفكر فيه”.. هذه المقولة لباحث أوروبي تعطيك بوضوح ما معنى أن تجمع هذه المواقع كافة المعلومات عن أي مستخدم، وما معنى أن تمتلك حكومة مثل الحكومة الأميركية القدرة على الوصول لهذه المعلومات. هذا هو باختصار سبب الضجة العالمية التي حصلت حول الوثائق التي سربت من وكالة الأمن القومي الأميركي.

أحد الصحفيين كتب تأملاته في صحيفة نيويورك تايمز حول ما يعنيه برنامج استخباراتي كان قد سمحت به حكومة الرئيس أوباما وظهرت معلومات عنه ضمن الوثائق نفسها والذي يقوم على تحليل معلومات الإيميل (أي المرسل والمستقبل والتاريخ) دون الاطلاع على الإيميل نفسه لكل الإيميلات التي أرسلت داخل أميركا لمدة عامين. هذا يشبه ما يفعله برنامج اسمه Immersion والذي يسمح لك أن تحلل إيميلاتك بنفس الطريقة لتكتشف عبر السنوات التي استخدمت فيها الإيميل من هم أكثر الناس الذين تواصلت معهم، ويكشف شبكة العلاقات بين الناس الذين تعرفهم وتتواصل معهم. تخيل ماذا يعنيه أن تملك الحكومة الأميركية هذه المعلومات عن كافة الأميركيين، إنه باختصار يغني الحكومة عن ملايين من الدولارات لفهم الأنماط الاجتماعية وشبكات العلاقات بين الناس والتجمعات الموجودة وكيف تنمو وتتكون وتتغير، سواء كان ذلك في أوقات الأزمات أو في أوقات الرخاء.

إن اتخاذ أي قرارات ضخمة على المستوى الحكومي يتطلب وجود هذا الكم من المعلومات، وبينما كانت الحكومات تنفق مليارات الدولارات للوصول إلى معلومات تقريبية مع اجتهاد مكثف أن تكون عينة البحث ممثلة للجمهور العام، فإنها الآن تملك القدرة على الوصول لمعلومات دقيقة لكل الجمهور (وليس عينة فقط) وبتكاليف أقل بكثير، وبدون استخدام فريق بشري ضخم من جامعي المعلومات على الأرض، بل تستخدم باحثين ومحللين وإحصائيين فقط يجلسون على كمبيوتراتهم ليخرجوا بكافة أنواع النتائج.

لهذا قلت في مقال سابق إنني شخصيا أتوقع أن اهتمام الحكومة الأميركية في تحليل المعلومات التي تصلها من “جوجل” و”فيسبوك” وغيرها ليس لفهم حياة شخص بعينه، لأن أعداء أميركا في النهاية أشخاص ليسوا بكثر، ولا يحتاج الأمر هذه البنية التحتية الضخمة لتحليل المعلومات والحصول عليها من الشركات التسع الكبرى في أميركا. أضف إلى ذلك أن القانون الأميركي يكفل للحكومة الحصول على تلك المعلومات على حساب الشركات بعد التقدم بالطلب من خلال القضاء، الذي من النادر أن يرفض طلبا من هذا النوع.

في رأيي أن هذه البنية التحتية الضخمة هي لجمع المعلومات عن مجتمعات العالم، وديناميكية الحركة فيها، وكيف تتكون، وكيف تتحرك، وبالتالي إمكانية اتخاذ قرار أكثر دقة وأقل مخاطرة وفهم أفضل للشعوب دون الحاجة إلى اللجوء لآلاف الخبراء وعملاء الاستخبارات وجامعي المعلومات ومراكز الأبحاث وكل ما تستخدمه الدول الكبرى في السابق لجمع المعلومات عن الدول الأخرى.

تخيل مثلا كيف سينظر الأميركيون لقضية مثل ما حصل في مصر الأسبوع الماضي عندما يملكون كل هذه المعلومات ويفهمون بالضبط حركة التجمعات المتصارعة داخل مصر، إنهم بالضبط كمن ينظر لملعب كرة القدم من أعلى ويرى بالضبط أين يقف كل لاعب في لحظة معينة، ثم يقرر ما هي الحركة التالية لكل لاعب. الأمر باختصار يعني قدرة خرافية على التوقع والتأثير والتحكم في مجريات الأمور على الأرض.

هناك مصطلح متداول حاليا بشكل كبير هو Big Data والذي يمكن ترجمته بـ”قواعد المعلومات المعقدة” لأنه يتناول الكم الهائل من المعلومات التي لا يمكن تحليلها بالأدوات المعتادة لتحليل المعلومات ويحتاج أنظمة ضخمة ومعقدة. هذه المعلومات تنمو بسرعة هائلة تصل إلى 60% سنويا حسب إحدى الدراسات، وهذا يعني مساحة تحزين لمليارات من بيتات المعلومات وتحليلها وفهمها. عندما تمتلك الإنسانية مثل هذه المعلومات فإن هذا قد يعني يوما الحاجة للبحث العلمي وأبحاث السوق التقليدية التي تحاول جمع المعلومات عن الجمهور بأساليب تقليدية.

من جهة أخرى، فهناك تخوف غربي متزايد بشكل سريع بين المنظمات المدنية مما يعنيه امتلاك الحكومات لهذه المعلومات، ولا يستبعد أن تكون هذه القضية عنوان المعارك الانتخابية القادمة، وهما عاما للجماهير، وعاملا مهما في تطور ثورة المعلومات وتطور جوهر الأنظمة الديموقراطية نفسها.

استخدام الحكومات لقواعد المعلومات المعقدة ليس شرا كله، بل هو يعني في كثير من الأحيان الفهم الأفضل لما يحتاجه الناس، والتحليل الدقيق لقضاياهم، والابتعاد عن التأثر بما يقوله الإعلاميون والمستشارون والناس على الشبكات الاجتماعية لفهم الواقع الدقيق ومعالجة المشكلة بالشكل الصحيح. بكلمات أخرى، عندما تكون الحكومة من النوع الذي يهتم بمصالح الناس، ويعمل على السهر عليها والقيام على مصالحها، فهذا يعني أن قواعد المعلومات المعقدة هذه ستكون أفضل وسيلة تساعد الحكومات على تحقيق تلك الأهداف عموما.

هل ستصبح الخصوصية هوسا لدى الناس الخائفين من اطلاع الشركات والحكومات على تفاصيل حياتهم؟ هل سيؤثر ذلك على نمو مواقع الإنترنت وتطبيقات الموبايل الاجتماعية؟

هذه أسئلة كبرى سنعرف أجوبتها خلال الأعوام القليلة القادمة.

المصدر: الوطن أون لاين