كاتبة وإعلامية
ليست مشكلة فرج فودة ألا يكون قابلا للفهم لدى أولئك النصوصيين، الذين انتهوا به ضحية لجهلهم وتوقف عقولهم عند جوامد .فكرية هشة. لم يكن الراحل مفكرا وحسب وإنما قارئ متميز لمآلات واتجاهات المستقبل
يقف الراحل الدكتور فرج فودة في قمة فكرية قد لا يدانيه فيها كثير من المفكرين المعاصرين، فهو جدلي بما يفتح مساحات واسعة من المحاور التي ينبغي أن تخضع للنقاش، فليست هناك ثوابت إلا المتغيرات، وهو لم يكن ليجادل أو يحاور في مسائل مطلقة، وإنما يطرق تلك التابوهات الكلاسيكية بقوة ويخضعها لتشريحه الفلسفي والنقدي من خلال أدوات موهوبة تصل به إلى حدود العبقرية.
قد أبدو منحازة للراحل، ولكن ذلك مبرر بما أنجزه فكريا وثقافيا، فعقله جدير بالاحترام، وليست مشكلته ألا يكون قابلا للفهم لدى أولئك النصوصيين الذين انتهوا به ضحية لجهلهم وتوقف عقولهم عند جوامد فكرية هشة، ولم يكن الراحل مفكرا وحسب وإنما قارئ متميز لمآلات واتجاهات المستقبل، وتلك مرحلة لا يصلها كثير من المفكرين الذين لا يجرؤون على اختراق المرحلة التالية من الحراك الإنساني والفكري.
فودة كان علمانيا صاحب فكر أنيق، ومن عتاة المطالبين بفصل الدين عن الدولة، وتمتد فكرته السياسية إلى أن الدولة المدنية لا علاقة لها بالدين، وقد طرح ذلك في كثير من كتبه ومنابره، وأثار الجدل بشأن ذلك، والاستخلاص أنه عاش مبكرا في غير زمانه، لينتهي برصاصات غادرة لقتلة لم يفقهوا حرفا مما كتب أو قرأ أو قال، فقاتِله حينما سئل لماذا اغتلت فرج فودة؟ قال: لأنه كافر، وعندما سئل من أي كتبه عرفت أنه كافر؟ قال: أنا لم أقرأ كتبه، فأنا لا أقرأ ولا أكتب، ولنفتح المدى لمزيد من علامات الاستفهام والتعجب؟؟!!
ذلك الرجل قرأ أحوال الواقع والمرحلة ببصيرة نادرة، ويكفيه من شرف الفكر ورجاحة العقل ما توصل إليه بشأن جماعة الإخوان المسلمين وأسهب فيه خاتما به كتابه “النذير” حين قال عنهم: “سيزدادون عتوا، وستزداد الكثرة لهم عداء وكرها، ولن يستمر البسطاء بعيدا عن المعركة، وإنما سينتصرون لمن حاولوا أن يجعلوا حياتهم أجمل وأكثر بهجة وإشراقا، وضد كل من يهوى الظلام ويسعى للإظلام، سيصرخون ضد الغناء، وسيغني الشعب، سيصرخون ضد الموسيقى، وسيطرب لها الشعب، سيصرخون ضد التمثيل وسيحرص على مشاهدته الشعب، سيصرخون ضد الفكر والمفكرين، وسيقرأ لهم الشعب، سيصرخون ضد العلم الحديث، وسيتعلمه أبناء الشعب، سيصرخون ويصرخون، وسيملؤون الدنيا صراخا، وسترتفع أصوات مكبرات صوتهم وستتضاعف، وستنفجر قنابلهم، وتفرقع رصاصاتهم، وسوف يكونون في النهاية ضحايا كل ما يفعلون، وسوف يدفعون الثمن غاليا حين يحتقرهم الجميع، ويرفضهم الجميع، ويطاردهم الجميع”.
ذلك لم يكن وحي خيال وأوهام، وإنما منحنا رؤية صافية ونقية لما ينبغي أن نحترس له، ولكننا تغافلنا عنها ونستعيده لنمنحه حقه بأنه كان أسبقنا في الرأي والرؤية. إنه في الواقع صاحب فضل ثقافي وفكري ثمين لم نحسن تقديره عندما تركناه لرعاع الناس يجهلونه ويجهلون ما يتحدث به ليغيب هو ويحضر هؤلاء، ونحصد مشهدا متعفنا بسياسة انتهازية وإقصائية، وفكرة اجتماعية مبتسرة، ودينية مضللة ومتطرفة، كان قد حذر منها ورآها وتيقن منها وأطلقها حين لم نكن نحسن استيعابها ورؤيتها، ولا يقف ذلك على حال الإخوان وإنما يتجه إلى المسألة العلمانية بذات الطرح ليقرر أن: “آفة حياتنا السياسية أننا لا نسمي الأشياء بأسمائها” وذلك دقيق وحقيقي، وعاجلا أو آجلا سنتفق جميعا مع اتجاهات وقناعات الراحل حول هذه العلمانية التي هي أكثر ما تحتاجها مصر التي تبطئ في استقراء عباقرتها ومفكريها، وتفضّل التشويش وكسوة الضباب على مثل هذه الطروحات التي تخرجها من الأنفاق المصطنعة التي يصنعها الظلاميون.
رحيل فودة لا يعني بأي حال نهاية فكره، فلا نزال نقرأ له “الحقيقة الغائبة” و”زواج المتعة” و”الطائفية إلى أين؟” و”حتى لا يكون كلاما في الهواء” و”النذير” و”الإرهاب” و”حوار حول العلمانية” و”قبل السقوط” فذلك أثر يحفر عميقا في واقعنا وينبغي أن نتتبعه لنصلح ما أفسده الدهر، فنحن أمام متاهات وفجوات تتسع في الطائفية والإرهاب والتطرف، وقبل أن نسقط في الفخ نحتاج لأن نعيد قراءة فكر الرجل لنستلهم قبسا يضيء لنا طريقا طويلا باتجاه سلامنا وأماننا واستقرارنا.
المصدر: الوطن
http://www.alwatan.com.sa/Articles/Detail.aspx?ArticleID=23680