فرح ومخاوف

آراء

خاص لـ هات بوست: 

بين ليلة وضحاها وجدنا أنفسنا نحن السوريين دون الطاغية، بعد أن كدنا نيأس من رحيله، ورغم الفرح الذي نعيشه مما يقارب الشهر، إلا أنه مع الأسف قد حقق شعار لطالما نادى به حاشيته “الأسد أو نحرق البلد”. فلم يقتصر الحريق على دمار شاب الأبنية والأراضي وكثير من الأماكن، بل تجاوز إلى البنية الاقتصادية والاجتماعية للبلد، وإذ يطفو واقع الحياة اليومية البائس على السطح تصبح من الأهمية بمكان تلبية الاحتياجات الخدمية للناس الذين يبحثون عن قوت يومهم، إضافة لما يتبع ذلك من أبسط مقومات العيش.

وبموازاة البهجة بالخلاص من الاستبداد السياسي، هنالك مخاوف من استبداد ديني يحل محله، رغم ما يسمى “تطمينات” يحاول من وصلوا إلى السلطة “مؤقتاً” تقديمها، وتأتي بعض الممارسات والتصريحات والقرارات المرتجلة لأن تثبت شكوكنا، كأن تتسرب تعديلات على المناهج الدراسية مثلاً، ثم يبرر الوزير المختص أن تلك التعديلات طالت نواحي معينة تتعلق بالعهد البائد إضافة لمنهاج التربية الإسلامية، وتلك لعمري طامة كبرى.

لعلي أسأت الظن، ولعل التعديلات تكون كما أطمح ويطمح الكثيرون غيري.

فبداية نحن اليوم بأمس الحاجة لكل المكونات من الملل والطوائف لبناء وطن لكل أبنائه، وتدريس الإسلام كما جاء في التنزيل الحكيم، ككتاب مقدس صالح لكل زمان ومكان، لا الاعتماد على تفسيرات أكل عليها الزمن وشرب، لا نستفيد منها سوى مزيد من الفرقة والتشرذم، ومن حقنا كمسلمين أن نقرأ الكتاب بعيوننا نحن لا بعيون أحد غيرنا، والإسلام وفق كتاب الله هو الإيمان بالله واليوم الآخر مع العمل الصالح: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} (البقرة 62).

في كتاب الله {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ۚ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة 256) و”لا” هنا نافية للجنس، والدين بهذا المعنى لا يملك أداة الإكراه، فأنت تؤمن أو تعصي طواعية، و”الطاغوت” هو “استمرار في الطغيان”، فالإيمان بالله يتوازى مع الكفر بالطغيان بجميع أشكاله، ومن هنا نفهم قوله تعالى {وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف 29)، فالأمانة التي حملها الإنسان هي مسؤوليته عن خياراته على أن يحاسب في اليوم الآخر، وبالتالي علاقة الإنسان بربه شخصية بحتة لا يمكن لأحد التدخل بها، وعلاقة السلطة بالأفراد تحكمها القوانين، ومهمة الدولة تأمين حياة كريمة لمواطنيها في الدنيا، مقابل التزام المواطنين بتلك القوانين، أما الآخرة فلكل إنسان مطلق الحرية أن يؤمن بها أو لا يؤمن، يعمل لأجلها أو لا يعمل، فأنت لست وصي عليه لتقوده إلى الجنة أو النار.

رب قائل: “وماذا عن حكم الله؟”، نعم قال تعالى عن أهل التوراة: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنفَ بِالْأَنفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}(المائدة 45)

وقال عن أهل الإنجيل {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (المائدة 47).

فماذا قال عنا نحن المؤمنين برسالة محمد (ص)؟ أعطانا مجموعة وصايا تشكل الصراط المستقيم (الأنعام 151- 152 -153) قوامها الأخلاق، ضمن شريعة حدودية تتفق بنودها مع معظم قوانين دول العالم فتتراوح في مجال واسع بين العفو والإعدام (عقوبة القتل العمد)، وتنوس بين الحدين وفق ما يراه المشرعون مناسباً لظروف مجتمعاتهم في الزمان والمكان.

وللتذكير فقط، حين أسس الرسول (ص) دولته في المدينة المنورة بقي فيها كل أهل الملل الأخرى، والمشركون والمنافقون وغيرهم، عاشوا جميعاً فيما يشبه المواطنة في عصرنا الحالي، لهم حقوق وعليهم واجبات، وفق قاعدة أساسية {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَىٰ وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} (الحج 17)، ولم يذكر عنه (ص) أنه عاقب على ترك صلاة أو صيام، لكن ربما عاقب السارق والسكران، وفق القوانين التي سنها بما يتناسب مع مجتمعه، وكذلك انطلاقاً من قوله تعالى {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا ۚ أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس 99).

هذا غيض من فيض عن ديننا العظيم، هل يمكننا أن ندرسه كما جاء؟ أم أننا نريد الوقوف عند ما رآه مشكورين رجال في القرن الثاني الهجري وما شرعوه وفسروه بناءً على أرضيتهم المعرفية حينها؟

تعالوا نبدأ برؤية معاصرة تنهض بنا معاً لنؤسس دولة قائمة على المواطنة، مرجعيتها الأخلاقية هي القيم التي شكلت الصراط المستقيم، ولا يختلف عليها أحد، ونعدل من ثم مناهج الديانة الإسلامية.