د. السيد ولد أباه
د. السيد ولد أباه
كاتب وأستاذ جامعي موريتاني، له كتب ودراسات عديدة منشورة في ميادين الفلسفة المعاصرة وإشكالات التحول الديمقراطي.

قبائل الشرق الأوسط الجديد: الرهان الخاسر

آراء

هل أصبحت القبيلة هي البديل عن الكيانات السياسية المنهارة في العراق وليبيا وسوريا واليمن، بعد أن برز للعيان أن ما تشهده هذه البلدان من أزمات داخلية حادة قوض جذرياً البناء المركزي للدولة؟

في العراق أدى تحالف العشائر السُنية مع قوات «داعش» وبقايا التنظيمات «البعثية» إلى السيطرة على مناطق الوسط، بما فيها المحاور والمنافذ القريبة من العاصمة بغداد، في الوقت الذي شكلت المجموعات القبلية المشتركة على الحدود العراقية السورية، مجالاً سيادياً ممتداً من دير الزور إلى الموصل وعلى خطوط الحدود مع الأردن وتركيا (قبائل جبور وشمر والبقارة).

في ليبيا تدور راهناً حرب دامية بين الزعامات القبلية المسيطرة على أغلب مناطق البلاد والتنظيمات الإسلامية المتطرفة التي هيمنت على العديد من مدن الشرق الليبي (درنة وأجدابيا وبنغازي) بعد سقوط نظام القذافي كما لها وجود قوي في العاصمة طرابلس. والمعروف أن قبائل «التبو» الأفريقية قد استقلت عملياً بالجنوب الليبي في حين تسيطر قبائل الطوارق والأمازيغ على المجالين الجنوبي الغربي والغربي الشمالي وللقبائل الكبرى (كورفلة ورشفانة وترهونة)، ولها مليشياتها وفضاؤها الإقليمي، في وقت يحاول القائد العسكري اللواء خليفة حفتر استعادة بعض مقومات الدولة مدعوماً من قبائل «طبرق» والمجموعات القبلية الحليفة لها.
في اليمن حالة مماثلة، حيث تتقدم القبائل المسلحة في الشمال المتحالفة مع الحركة “الحوثية” إلى حدود العاصمة صنعاء بعد أن أصبحت تهيمن عملياً على أغلب مناطق ما كان يُشكل سابقاً اليمن الشمالي، في الوقت الذي تتجذر النزعة الانفصالية لدى النخب الجنوبية في عدن وحضرموت. ما يبدو استفاقة قبلية تلقائية ليس في الواقع سوى نتيجة منطقية لرهانات معقدة تتعلق بتركيبة النسق السياسي في البلدان المذكورة والسياسات الدولية في المنطقة وطبيعة التحولات المأساوية التي شهدها المجال الإقليمي في مجموعه.

يتعين هنا التنبيه إلى أن مازق التدخل الأميركي في العراق ولدّ اتجاهاً قوياً في الدراسات الاستراتيجية الأميركية إلى خيار إحياء المعادلة القبلية للاستفادة منها في تحقيق الاستقرار السياسي ومحاربة الإرهاب والتطرف الديني. نذكر في هذا الباب المقالة الشهيرة التي كتبها الكاتب السياسي الأميركي «روبير كابلان» في مجلة «أتلانتيك مونثلي» 21 نوفمبر 2007، معتبراً فيها أن مشروع التغيير الديمقراطي الذي تبنته الإدارة الأميركية في العراق فشل لأنه لم يراعِ طبيعة النظم الاجتماعية التي لا تؤهل البلد للنموذج البرلماني التعددي، مطالباً بإقامة نمط من النظام التمثيلي الذي يكفل التوازن بين المجموعات القبلية المؤثرة. فالقبيلة هي التي يمكنها وحدها بالنسبة له أن تُخرج العراق من الفوضى وتضمن الحد الأدنى من التماسك والاندماج الاجتماعي وخطأ المحتل الأميركي هو الرهان على النخب الليبرالية التي لا تمثل شيئاً، في حين كان من الضروري مراعاة الحقائق القائمة على الأرض. «كابلان» فسر استقرار عهد الرئيس البعثي صدام حسين بتحالفه مع قبائل الأنبار القوية التي تتحكم في مسالك التجارة والتهريب مع سوريا ومنها تتشكل القيادات العسكرية الكبرى في الجيش. وهكذا يخلص «كابلان» إلى أن الشعوب العربية لا ترنو للديمقراطية وإنما تهدف إلى العدالة والكرامة، وهي قيم اجتماعية قادرة على التحقق ضمن النسق القبلي وليست منسجمة بالضرورة مع المنظومة القيمية الغربية.

أطروحة “كابلان” التي اعتبر أنها صالحة للتمديد على الساحات الشرق أوسطية إجمالاً بما فيها الساحة الأفغانية- الباكستانية، تزامنت مع تحول نوعي في الاستراتيجية الميدانية الأميركية في محاربة الإرهاب بمناطق وسط العراق السُنية بحيث اعتمدت قوات الاحتلال على الزعامات القبلية في طرد مجموعات «القاعدة» (حركة الصحوات)، وكان صاحب هذه الخطة هو الجنرال ديفيد باتريوس، الذي اعتمد على لفيف من المستشارين من علماء الأنثروبولوجيا والاجتماع في مقدمتهم «ديفيد لكيلن»، وهو ضابط من أصل أسترالي يحمل درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا يعتقد أنه هو من بلور هذا المنظور التوظيفي للمعطيات القبلية.

في الفترة ذاتها كتب «جيري موللر» مقالة مثيرة في مجلة « فورين أفيرز» الأميركية حول مستقبل «القوميات الإثنية في القرن الواحد والعشرين»، (أبريل 2008) اعتبر فيها أن التجربة الغربية أثبتت أن شرط الديمقراطية والاستقرار هو تماهي الكيان السياسي مع الهوية القومية العرقية، في حين أن المجتمعات المتنوعة مهيأة دوماً للتناحر والفتنة، وكان المشهد العراقي حاضراً بقوة في خلفيات هذا التحليل.

ما نريد أن نبينه أن هذه المقاربة التضخيمية للقبيلة (سواء في مفهومها العصبي أو الإثني) تنطلق من خلفية معروفة في الدراسات الأثنولوجية الغربية التي تمحورت حول أطروحتين كبيرتين: الأطروحة التطورية التي تعتبر القبيلة حالة اجتماعية متخلفة تناسب المجتمعات البدائية التي لم تنتقل لعصور الحداثة، والأطروحة الانقسامية التي تنظر للقبيلة كنمط من الانتظام الاجتماعي يميز بعض المجتمعات التي تولد داخلياً كوابح دون نشوء السلطة المركزية.

ليس من الصعب تبين خيوط الوصل بين النظريتين اللتين بعثنا من حقل الدراسات الإثنوغرافية الاستعمارية في قراءة المشهد العربي الراهن والتعامل معه، دون إدراك حقيقة مفادها أن ما يجري هو في الواقع إعادة إنتاج المعطى القبلي والطائفي في اتجاهات ورهانات حالية لا علاقة لها بالموروث التاريخي ولا طبيعة البناءات الاجتماعية التقليدية، بل هي معطيات لصيقة بالصراع المحتدم حول موارد الدولة المنهارة واعتبارات التموقع في مسار الهندسة السياسية الانتقالية التي تخضع لها المنطقة بطريقة مأساوية. كان العالم الأنثربولوجي البريطاني «ادوارد ايفانس بريتشارد» يقول إن القبيلة لا يمكن أن تقوم دون الحرب، ولذا نرى اليوم أنه يمكن إعادة إنتاجها في معادلة الصراع، لكن من الخطر الاعتماد عليها في خلق السلم وبناء المجتمعات المستقرة.

المصدر: الاتحاد