زياد الدريس
زياد الدريس
كاتب سعودي؛ كان سفيراً لبلاده في منظمة اليونسكو

«كبار الكُذّاب» مجادلة في سؤالَيْ: لماذا نكتب .. لماذا نكذب؟

آراء

أما السؤال الأول، فرغم ظاهره الفلسفي العميق وما يمكن أن ينطوي عليه في أعماقه من أبعاد معرفية، إلا أنه تحوّل بفعل الصحافة إلى سؤال تقليدي هش بسببٍ من سوء استخدامه من لدن ذوي الأسئلة، وابتذاله من لدن ذوي الأجوبة!

حتى الذين لمّا ينخرطوا في عمق الكتابة أصبحوا يستجيبون بكل نرجسية لسؤال: لماذا نكتب؟!

لا أحد يمكنه أن ينفي وجاهة السؤال أو الشغف للإجابة، لكن سؤالاً كهذا يحتاج للإجابة عنه مساحة كبيرة وفضفاضة من الصدق والوضوح والتجرد.

هل نحن نكتب لأن «الكتابة تجري في دمنا»، كما يتكرر في كثير من الحوارات الصحافية، أو أننا «لا نستطيع التنفس من دون كتابة» أو لأننا «نريد أن نساهم في إصلاح هذا الكون»؟!

أجزم بأن بعضاً أو قليلاً من الكتّاب مسكون بهذه الهواجس الطوباوية لنزعة الكتابة، لكن آخرين كُثُراً هم في الحقيقة يكتبون: حبّاً للظهور وخدمة لمصالحهم وسلّماً للوصول إلى سدة المناصب ورؤوس المجالس. ولا ضير في هذا لو كان مصحوباً بذاك، فنحن لا ننشد كتّاباً / ملائكة يحلّقون فوق رؤوس الناس ولا يهبطون، لكننا بالمثل لا نريد كتّاباً / شياطين يَحْلِقون منافع الناس بإسم خدمة الناس!

هنا سنتحوّل من سؤال (لماذا نكتب؟) إلى سؤال (لماذا نكذب؟).

لماذا يكذب الكاتب، ويستخدم قدرته ونفوذه في جعل الحسن سوءاً والسوء حُسناً؟ لماذا يقول ما لم يحدث ويخفي القول عما حدث؟ لماذا يجعل كل شيء على ما يرام، أو بالعكس أيضاً، يجعل كل شيء على ما لا يرام؟

لماذا يتحول الكاتب إلى كاذب؟!

هل المرحلة العمرية لها دور مؤثر، أم الحالة المادية هي أساس التحول؟ أم الظروف النفسية والإيديولوجية التي يتقلّب فيها الكاتب هي التي تصنع ذريعة التكاذب؟!

نعرف جميعاً أن أجواء الحرية العربية الضيقة لن تتيح لك دوماً فرصة أن تقول الحقيقة، لكن الصمت متاح لك دوماً إن شئت أن لا تكذب.

إذا كان قول الحقيقة شجاعة، فإن الصمت في مواضعه شجاعةٌ لا تقل وزناً ووهجاً.

قلّة قليلة من الكتّاب هي التي لا تستطيع أن تقول الحقيقة ولا حتى تستطيع أن تصمت، لأنها باعت صوتها و صمتها معاً.

لكن ماذا عن آخرين كثر ليسوا ممنوعين من الصمت وليسوا مجبرين على الكذب ورغم هذا فهم يبادرون ببذل ما يقدرون عليه من الكذب وتزييف الوقائع؟

ما الذي يجعل الكتّاب يكذبون؟

هو الطمع بلا شك في المزيد من الجاه والمزيد من المال.

لن تصطدم هذه الإجابة الواقعية بالمثالية المتخيَّلة عن الكاتب، فكثير من الكتّاب من ذوي الأسماء الرنانة في العصور السابقة لم يكونوا خلواً من انتهازية قادت في كتاباتهم إلى تزييف الكثير من وقائع التاريخ.

لكننا نتألم أن يزاول الكاتب الكذب… في حين يدّعي الصدق، والإخلاص، والهمّ الذي يسري في عروقه من أجل إصلاح الكون، بينما هو لم يستطع إصلاح نفسه!

(كاتب مستقل)، هذا اللقب الفاخر لا يحظى به الكتّاب الذين تتحكم في تحديد مواقفهم المنفعة أو تسيّر توجهاتهم الكتابية مشاعر الحب والكراهية. هذه بالأصح صفات الشاعر الذي يعبّر عن رأيه بعواطفه لا بعقله، أما الكاتب فأدواته مختلفة عن هذه، هذا إذا أراد أن يستحوذ على اللقب الرفيع.

ويبقى السؤال المحير: أيهما تشكّل أولاً في ذلك الجسد: الإنسان الكاتب أم الإنسان الكاذب؟!

هذا السؤال ليس سفسطائياً بلا جدوى، كما قد يبدو، بل ربما كان هو الخيط الأول لإجراء تعديل وراثي / مهني بغرض تقليص حالات الإصابة بالتكاذب عند الكتّاب.

والآن لنغلق المقال، ولنفتح النقاش حول: أيهما يتخلّق في البويضة أولاً: الكاتب أم الكاذب؟!

المصدر: الحياة

http://alhayat.com/Opinion/Ziad-Aldrees/5066611