فهد الدغيثر
فهد الدغيثر
كاتب سعودي

كسعودي… أشعر بالقلق!

آراء

نعم أشعر بالقلق، لكن ليس بسبب مواقف الغرب الأخيرة من المملكة، التي بدأت تأخذ شكل المواجهة العلنية، وجسدها مؤتمر جنيف الأخير لحقوق الإنسان، والتعليقات والمواضيع التي أعقبته. أشعر بالقلق، لكن ليس بسبب تقارب أميركا مع إيران، دعهم يتزوجوا وينجبوا، لا مشكلة عندي، فهم في النهاية أحرار، ولا أشعر بالقلق، بسبب الوضع العربي المتهالك وانتشار القتل والتدمير، على سوءه وما يحمله من مآسي إنسانية عظيمة.

القلق الحقيقي لدي كسعودي، هو البيت الداخلي لهذا الوطن العزيز، فالمملكة وكما أشرت وأشار غيري بحاجة ماسة إلى إعادة الهيكلة بالكامل وفي مجالات عدة. فالأنظمة الإدارية متهالكة، وقد عفا عليها الزمن.

الفساد لم يتوقف، بل ينتشر كالنار في الهشيم، على رغم كل ما يبذل من جهود للتصدي له، إذ إننا بحاجة كما يبدو إلى علاج آخر. معايير الجودة في الأداء لدى الموظف الحكومي غائبة، ولا فرق بين من يعمل بجد ويلتزم بالدوام الرسمي وينجز ما بين يديه من مهمات، وبين من يقضي الصباح بين الصحف وكبدة الحاشي والخروج المتكرر من العمل. الأدهى من ذلك أن المدير أو حتى الوزير لا يملك الصلاحية بفصل أحد حتى لو ارتكب أكبر الأخطاء في عمله. «نعم» قد يعاقب بطريقة خجولة، لكنه باقٍ في عمله.

التعليم ومنذ أعوام مع إعلان الدولة برنامج التطوير الضخم، ما زال مخترقاً، ويئن تحت وطأة الفكر نفسه. وليس أدل على ذلك من إيراد مقولة حسن البنا في منهج «الوطنية» السعودي! مستويات المعلمين وطريقة تعليمهم هي الأخرى جامدة، لا ورشات عمل ولا حوافز تقديرية لأفضل معلم.

«نعم» نسب النجاح عالية وفريدة من نوعها، لكن المخرجات هزيلة. الوزير العيسى يعمل بلا كلل لتطوير القضاء وتقنين الأحكام، لكن أمامه الكثير من التحديات، سواء في القدرات التي يتمتع بها القضاة أو في الأفكار المضادة لتوجهاته. العمل والتوظيف يصارع كواكب الكون حتى يخرج بمبادرة إيجابية. نجح الوزير في إيجاد فرص جديدة للمرأة، لكن الدولة لم تنجح في كف الأذى عن برنامجه من المنفلتين الذي يزعمون أنهم أكثر غيرة على ابنتي أو أختي أو زوجتي مني.

الطاقة وما أدراك ما الطاقة، فالمياه تهدر بطريقة جنونية يميناً وشمالاً، سواء في المنازل أم في المصانع، الوقود هو الآخر يستنزف في شكل مروع، وقد لا يمضي الوقت طويلاً قبل أن نكتشف أن إنتاجنا بالكامل لن يكفي حاجة المملكة لوحدها، بمعنى عدم قدرتنا على التصدير.

الوعاء الوظيفي في المملكة هو الآخر مقلق، لا مكان في الأفق للعدد المقبل من طالبي العمل، بسبب ضيق هذا الوعاء، أما سبب الضيق فهو محدودية الخدمات التي تقدم داخل الوطن، إضافة إلى مستوياتها المتدنية. ومعروف أنه كلما ارتفعت الجودة زاد عدد الموظفين، ليحافظوا عليها والعكس صحيح. نتيجة لذلك ولأسباب أخرى أشرت إليها في مقالات سابقة عدة، فبلادنا مغلقة بالكامل تقريباً أمام الزوار من غير المعتمرين، وفوق تدني الخدمة صعوبة الحصول على تأشيرة الزيارة. ليس ذلك فقط بل إن الملايين من السعوديين أنفسهم أصبحوا يفرون إلى الخارج في كل عطلة، لا بحثاً عن الأجواء الباردة بل عن الترفيه والسعادة والبيئة النظيفة والخدمات الراقية عموماً. أما ثمن ذلك اقتصادياً فهو باهظ جداً بالنظر إلى حجم الأموال المهاجرة، وتأثير ذلك على الدورة المالية الداخلية. التخطيط عموماً في المملكة لا يتواكب مع النمو السكاني، وخير شاهد على ذلك نقص المستشفيات والجامعات وتردي تخطيط المدن ووسائل النقل العام.

أشعر بالقلق ومعي الكثير من أبناء وبنات هذا الوطن، بسبب تردد الدولة في ضبط الأمن والسلم الاجتماعي في الأماكن العامة والطرقات. «نعم» استطعنا حماية الوطن وببسالة كبرى ونادرة في مواجهة التخريب والعنف والضلال، لكنني أتحدث عن الأمن في وقت السلم. مثلاً، لا يوجد حتى الآن قانون واضح للتعريف بالإرهاب، ولهذا نجد من يخرج كل يوم بفكرة أو تغريدة جديدة تحرض عليه، بل حتى في مواضيع الطائفية والإقصاء والعنصرية لا يوجد ما هو مدون لدى المحاكم، يخضع من يرتكب مخالفة من هذا النوع للعقاب. ولذلك أصبح الإقصاء والتخوين ظاهرة في مجتمعنا. وفي الطريق، من يعاقب السائق المتهور المخالف باستثناء المعاقبة الآلية لكاميرات «ساهر». خلاف ذلك تستطيع أن تقود سيارتك كيفما شئت وبجوار رجل المرور، ولن يوقفك أحد مهما تمردت.

الأماكن العامة ومراكز التسوق تعج بالتحرشات الجنسية مع الأسف، بسبب غياب القوانين الرادعة التي تمنع ذلك. فالقبض على المتحرش أشبه ما يكون معدوماً إلا إذا صادف هذا الحدث وجود فريق من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقرب من المكان.

أما في غياب هؤلاء فلا يوجد أي رادع كتدخل رجال الأمن، ومن ثم السجن أو تدوين الواقعة في السجلات المدنية أو التشهير لا يوجد من ذلك شيء، ولذا فجرأة الشاب المعاكس ووقاحته لا حدود لها في مجتمعنا.

هذا السلم الاجتماعي الغائب إلى حد كبير جعل من مسألة حقوقية بديهية علة العلل، أقصد بذلك منع المرأة من قيادة سيارتها، المعارضون لذلك وهم بالمناسبة ليسوا من المتشددين دينياً بالضرورة ينطلقون من الخوف على محارمهم، وهو خوف مشروع.

الدولة هي الأخرى تشعر بذلك، وهذا برأيي سبب ترددها، لكن الدولة مسؤولة في النهاية عن الحماية وعن الضبط وفرض هيبة القانون، ولو فعلت ذلك لما تحقق للمرأة فقط قيادة سيارتها بل ممارسة كامل حقوقها في العمل والتجارة وما إلى ذلك.

وهنا لا يجب أن ننسى الحاجة إلى العمل بمدونة الأحوال الشخصية التي طال انتظارها، هذه المواضيع تحديداً يستغلها الغرب للنيل من سمعة المملكة، ويسلط عليها الأضواء في كل مؤتمر وندوة بل حتى في لقاء أعلامي عابر. هناك مواضيع أخرى مقلقة كالوضع السياسي والديني، والتي تتطلب الكثير من المراجعة داخل أروقة السلطات العليا في الدولة، غير أن تناول مثل هذه المواضيع هنا ولو ببعض التفاصيل، إضافة إلى حساسيته سيحتاج إلى مقالات.

الذي أتمناه من دولتنا الحبيبة التنبه إلى مسؤوليات هذا الزمن ومتطلباته، وطننا اليوم ذو الـ30 مليون نسمة بتعددات مذهبية وقبلية وطائفية ليس وطن الستينات البسيط المتسامح، ما لم نعيد تشييد هذا البيت من الداخل، ونعزز من أركانه ووحدته، فسيستمر وضعنا هشاً، ومواقفنا للدفاع عن الوطن ضعيفة ومرتبكة، فلنبدأ اليوم بإعادة هيكلة هذه الوحدة العظيمة، مستعينين بأكبر وأعرق الدور الاستشارية في العالم، ومهما كلفنا ذلك مادياً، هل يوجد خسارة في استثمار كهذا سيحفظ لأجيال الغد وطناً قادراً على الصمود والشموخ وضرب أروع الأمثلة في بناء الكيانات الحديثة الواعدة؟

عندما يكتمل العمل في تأدية هذا «الواجب المنزلي» فلن نهتم بمواقف الآخرين، فحبنا لهذا البيت المتجدد عندئذٍ وولاؤنا لأرضه ومكتسباته سيكونان أقوى وأكثر شموخاً، ولن تنجح أمامه ولن تهز جدرانه مواقف ورياح بعض «الأصدقاء» المتقلبة أو مخططات الغدر والخيانة التي يمارسها أقرب الأقربون من بني جلدتنا.

المصدر: صحيفة الحياة