عمار بكار
عمار بكار
كاتب و أكاديمي متخصص في الإعلام الجديد

لا بديل عن “الانفتاح”!

آراء

إذا راقبت الحراك الاجتماعي والثقافي في المملكة، وربما في العالم العربي كله خلال السنوات العشر الأخيرة لوجدت أن كثيرا منه مرتبط بكسر الحواجز وتجاوز العادات والتقاليد (بما فيها المسلمات الفكرية) التي لم تعد تملك جاذبية عالية لدى الأجيال الجديدة. نحن نعيش في منعطف هام في تاريخ الإنسانية، حيث استطاعت ثورة المعلومات أن تنهي معنى الحواجز الجغرافية وتحول العالم إلى مجتمع واحد، وصار من المستحيل وضع الأسوار والاعتماد عليها في حماية المجتمع وتقاليده.. ليس هذا فحسب، بل إن “الانفتاح” على الثقافات الأخرى صار ضرورة حقيقية للنجاح والتطور لأي أمة على وجه الأرض، وأي أمة تعزل نفسها، ستواجه بالفشل الاقتصادي والسياسي وربما الثقافي كذلك.

هل الانفتاح على الآخرين مخيف؟

قبل أكثر من عشر سنوات كنت في حديث مع أمينة السلمي ـ رحمها الله ـ التي كانت حينها إحدى أبرز الشخصيات الأميركية التي تعمل لمصلحة خدمة قضايا المسلمين والعرب في أميركا، وذلك بعد اعتناقها الإسلام في السبعينات الميلادية. كانت أمينة حينها تنتقد العرب والمسلمين في أميركا، الذين يحاولون عزل أبنائهم عن المجتمع الأميركي أملا في تربيتهم على طريقتهم الخاصة بما يتوافق مع القيم العربية والإسلامية، وذلك في رأيها لأن الثقافة الأميركية كالطوفان الذي لا يمكن مقاومته. الحل في رأي أمينة كان هو أن تعمل من ضمن الثقافة نفسها، وتحاول أن تسمح للطفل بأن يفهم معطيات الثقافة الأميركية، ومعطيات الثقافة الإسلامية/ العربية، ثم شرح الفرق بأسلوب مقنع، مع محاولة إيجاد أكبر قدر من الانسجام في عقل الطفل بين الثقافتين.

نحن اليوم نعيش هذا الواقع تماما، حيث الإقناع وفقط الإقناع، هو الحل الوحيد لبناء ثقافة المجتمع وتحصين قيمه العامة. إذا كانت الفكرة لا يمكن نشرها بالإقناع فهي فكرة ضعيفة وتحتاج لإعادة هيكلة حتى تصبح كذلك. بهذا المبدأ انطلق المسلمون في عصور الفتوحات، ذهبوا لكل الشعوب، واستوطنوا معهم، واختلطوا بهم، والقصص الموجودة في كتب التاريخ عن محاولة الضغط على المجتمعات لتتبنى قيما أخرى أو حتى لحماية المجتمع العربي من المهاجرين الجدد القادمين إليهم من كل بقاع الدنيا محدودة جدا. الثقافة الأميركية انتشرت حول العالم بالجاذبية الهائلة التي تحملها في مكنوناتها، وكتب لها ذلك الاستمرار، بينما انهارت ثقافة الاتحاد السوفيتي رغم كل الحديد والنار الذي بذل عبر العقود من أجلها.

الإقناع يعني ببساطة الحديث مع عقول الناس وقلوبهم واستمالة تأييدهم، مع التركيز على الترغيب دون الترهيب، ومحاولة كسب “الزبون” الجديد الذي يأتي إلى مملكة أفكارك طائعا بعد كل العروض التي تلقاها والتي أسرت قلبه وأثرت على سلوكه النهائي، لهذا السبب تطورت دراسات الإقناع Persuasion studies، وظهرت عشرات النظريات التي تشرح كيفية إقناع الناس والأساليب التي يجب اتخاذها والأخلاقيات المرتبطة بها، وتفرع منها دراسات الصورة الذهنية والإعلان والتسويق وتنمية الروح الوطنية وغيرها. أعدت هذه الدراسات بعد أن فرضت الديموقراطية احترام الرأي الآخر، وصار استخدام الإجبار مرفوضا وصعبا جدا ومخالفا للدساتير التي تحميها المحاكم العليا في الدول الغربية.

لقد تعلم المسيحيون بالطريقة الصعبة، كل هذا بعد أن ثارت عليهم أوروبا، وتحولت المسيحية إلى ديانة قائمة على الدعوة الاختيارية التي تبذل جهدها لتمرير مبادئها للناس. وبينما يبذل الدعاة المسلمون جهدا أقل بكثير في أوروبا مع كم هائل من الأخطاء، إلا أن هذا الجهد القليل يحقق نتائج ضخمة تتمثل في عدد الناس الذين يدخلون الإسلام في أوروبا.

إذا كان الانفتاح خيارا لا بد منه في ظل ثورة المعلومات، فقد آن لنا أن نعيد اختبار أفكارنا وأساليبنا في التعامل مع الخطوط الحمراء. لا بد لنا من حوار اجتماعي عام يبحث عن القيم العميقة والأساسية ويتخلى عن القشور، لأن القشور ضعيفة ولا يمكن إقناع الناس بها. نحتاج لإعادة ترتيب النظم التربوية كلها في المدرسة والمنزل والمسجد وغيرها من مؤسسات التربية في المجتمع، بحيث تنسجم مع بعضها في هذا البحث العميق.

إن أسوأ ما يمكن أن يواجهه أي مجتمع هو أن يعيش في دورة من ردات الفعل، لأن ردات الفعل تزداد تدريجيا في قوتها وعمقها، مما يسبب تطرف طرفي النزاع والانقسام الاجتماعي. هذا -لا سمح الله- ما ينبغي علينا أن نتجنبه، وخاصة أننا نرى بوادره في الحوارات التي تدور على الشبكات الاجتماعية.

إن جزءا أصيلا من إيمانك بالإقناع أن تؤمن بحق الآخر في ألا يقتنع.. أن تفهم أن الناس مختلفون عن بعضهم، ومتنوعون بقدر أطياف الألوان كلها وربما أكثر. بدون الإيمان بحق الآخر في العيش معك في المجتمع وبنائه والمواطنة رغم كونه مختلفا عنك، لا يمكن للانفتاح أن يمر بشكل إيجابي. في مجتمع مدني، من يختلف عنك في رأيه السياسي أو الثقافي أو الفكري هو شخص فشلت أنت في إقناعه بأفكارك، والعلاج ليس قمعه، بل أن تعود لأفكارك وأساليبك وتسأل نفسك: لماذا فشلت في إقناعه؟ هذا ما يفعله مديرو التسويق في الشركات، وهو ما ينبغي أن يفعله من يحملون الأفكار ويدعون إليها.

اقرأ في التراث ستجد أن هذا بالفعل ما تحقق على الصعيد الاجتماعي في المجتمعات التي دخل إليها المسلمون الفاتحون، بينما بقي الكثير من سكانها غير مسلمين. كان النظام السياسي يتبع الخليفة، ولكن النظام الاجتماعي يبقى مدنيا يعيشه الجميع دون صراعات يومية لفرض الإسلام عليهم.
الإقناع هو الحل..

المصدر: الوطن أون لاين