مفكر إسلامي
خاص هات بوست :
يعتبر الإسلام نقطة فاصلة في تاريخ الإنسانية، إذ شكلت الرسالة المحمدية قفزة معرفية واجتماعية في خط سيرها، قد يجد البعض مبالغة في هذا الكلام، أو يظن أننا نطلقه جزافاً من باب المغالاة، لكنه حقيقة لا تخفى على قارىء التنزيل الحكيم، سواء لأحكام جاءت منسجمة مع فطرة الله التي فطر الناس عليها، أو من قصص قرآني، وقصص محمدي لأحداث جرت خلال سنوات البعثة.
فالرسالة المحمدية أعلنت ختم الرسالات، وبالتالي صلاحية الإنسانية للتشريع لذاتها، ضمن حيز كبير جداً، تحكمه خطوط عريضة (الحرام) تتفق عليها كل الشعوب والأمم، كذلك أعلنت المساواة بين الناس جميعاً، بغض النظر عن جنسهم ولونهم وعرقهم، والمعيار الوحيد للتقييم عند الله هو التقوى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات 13)، وبناءً على ذلك أسس الرسول محمد (ص) دولته، حيث الناس متساوون، لا رق بل عقود، والأنثى صنو الذكر، وكل امرئ مسؤول عن عمله، وعن علاقته مع ربه {وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلَا أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} (الكافرون 4- 6) والحكم شورى بين الناس {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ} (آل عمران 159)، لكن للأسف هذه القفزة لم تستمر بل عاد خط التاريخ لسيره الطبيعي، لتصل الإنسانية إلى كل هذه الأمور بعد ما لا يقل عن 1200 عام.
فالإسلام ألغى الرق، عبر تقديم نظام بديل، هو العقود (ملك اليمين) التي من خلالها يمكن الإبقاء على كل الوظائف التي كان يقوم بها الرقيق مع استبدال الآلية بعقد بالتراضي، يحترم حقوق الطرفين، إضافة لتجفيف المنبع، فلا أسرى {فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء} (محمد 4) وإنما هناك منافذ عدة لعتق الموجود، ولم تصل الإنسانية لهذه الخطوة إلا في عام 1863 حين أعلن إبراهام لنكولن تحرير العبيد رسمياً في الولايات المتحدة الأميركية، وبعد مائة عام حذت السعودية حذوه فأعلنت تحرير الرق بقرار من الملك فيصل بن عبد العزيز، بعد أن تأهل المجتمع لذلك، ودون أن يكون لرجال الدين أي دور في قرار كهذا.
أما الأنثى، فالتنزيل الحكيم ساواها مع الذكر في الخطاب {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} (الأحزاب 35) وفي الأجر، وفي القوامة {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} (النساء 34) فالقوامة للأفضل، والسيدة خديجة بنت خويلد كانت بيدها القوامة باعتبارها صاحبة المال، فيما تفرغ الرسول للدعوة، كذلك فإن الرسول الأعظم بايع النسوة {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لَّا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} (الممتحنة 12) في حين أن دول العالم المتقدم لم تصل إلى هذه الخطوة إلا قبل مائة عام بأفضل الأحوال.
واليوم إذ تخطو السعودية خطوة باتجاه حرية المرأة بقرارات ملكية أيضاً، نجد “رجال الدين” يترنحون في مواقفهم، وقد كان من الأجدر بهم أن يكونوا سباقين في هذا المجال، لو أنهم حملوا إسلام التنزيل الحكيم، لا إسلام التراث، حيث في الإسلام الأول التحريم بيد الله وحده، ولا أحد غيره، والمحرمات أربعة عشر، ليس من بينها قيادة المرأة للسيارة، ولا سفرها من دون محرم، ولا مسؤوليتها عن نفسها إذا كانت بالغة راشدة، أما في الإسلام الثاني فالحرام لا حدود له، والمرأة خلقت لمتعة الرجل فقط، ولا تتعدى كونها قارورة يرفق بها، أو حلوى عليه حمايتها من الذباب.
وفي الفقه الموروث هناك أبواب سد الذرائع ودرء المفاسد، كنت قد اقترحت إلغاءها منذ كتابي الأول “الكتاب والقرآن” الصادر في عام 1990، بحيث لا تطبق إلا بوجود الدلائل البرهانية من دراسات وإحصائيات ونتائج مادية، والآن أرى أنه آن الأوان لإلغائها تماماً، فالعبث بحرية الناس لا يمكن أن يكون اعتباطياً، والتقول على الله حرام {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} (النحل 116)، ويبدو أن الفقهاء هم أكثر الناس احتياجاً لمعلومات طبية واجتماعية قبل أن يشرعوا، أو ليتركوا المجتمعات تتقدم وفق ما أراد لها الله، تسير خلف عقولها، وكما قال ابن رشد “إن الله لا يمكن أن يعطينا عقولاً ويعطينا شرائع مخالفة لها”.