ياسر حارب
ياسر حارب
كاتب إماراتي

متى تعود ليالي الحلمية؟

آراء

عكفتُ قبل مدة على مشاهدة المسلسلات العربية القديمة التي كنا نشاهدها ونحن صغار؛ فلقد قررتُ أن آخذ إجازة من التلفاز بخيره وشره ، وأتخلص من الأخبار والمُنغصات وأعود للماضي الجميل. وكان يوتيوب مُعيني في تلك الرحلة، وكأنه آلة زمن عادت بي إلى أيام النقاء والواقعية. بدأتُ أولاً بمشاهدة المسلسل الصعيدي «ذئاب الجبل» لكاتبه محمد صفاء عامر، وكان أداء عبد الله غيث فيه بمنزلة دورة تدريبية لمن يحب التمثيل. ثم انتقلت إلى «حسن أرابيسك» لأسامة أنور عكاشة، الذي يُعد أفضل مَن كَتب الدراما العربية حتى الآن. ولقد بدأ أسامة مشواره بكتابة القصة القصيرة والرواية إلى أن أقنعه صديقه المخرج فخر الدين صلاح بكتابة الدراما التليفزيونية، وفعلاً خاض تجربته الأولى عام 1976 حين كتب مسلسل «الإنسان والحقيقة» ففوجئ بالعائد المادي الذي دره عليه. لكن كل نجاحاته السابقة للعام 1983 لا تُحسب، فهو العام الذي عُرض فيه المسلسل الشهير «الشهد والدموع» الذي كان نقطة تحول في حياة أسامة ومسيرة الدراما العربية. وعندما التقى به نجيب محفوظ بعد سنوات طوال قال له: «ليالي الحلمية وقبلها الشهد والدموع هي روايات مرئية، مِيزتها أن غير المتعلم يستطيع أن يقرأ ما فيها بسهولة ومتعة، وما أكثر غير المتعلمين في العالم العربي.» ولقد كان تركيز أسامة على كتابة السيناريو مباشرة خطوة مهمة لزيادة إنتاجه الدرامي، واستطاع من خلال أعماله أن يوثق مراحل مهمة من التاريخ السياسي لمصر والعرب، ناهيك عن معالجته لكثير من القضايا الاجتماعية المُلحة، كالفساد والإرهاب والظلم وغيرها من صراعات كان يعيشها المجتمع المصري بشكل خاص والمجتمعات العربية والإنسانية بشكل عام. نجد ذلك في أعماله الخالدة كـ «الراية البيضا» و«عصفور النار» و«حسن أرابيسك» وهذا الأخير استطاع من خلاله أن يصل إلى عمق الحَوَاري المصرية ويصور لنا صراعات حسن النعماني (الإنسان العربي) النفسية والاجتماعية، الذي على الرغم من عدم التزامه بعمله ورغم سهراته وفشله، إلا أنه لا يزال متمسكاً بالرجل النبيل في داخله، فيرفض عروضاً للنصب على السياح وبيع أعماله الخشبية والنحاسية لهم على أنها قطع أثرية. أما رائعته الخالدة «ليالي الحلمية» فهي درّة تاج الدراما العربية، استطاع من خلالها أن يوثق تاريخ مصر منذ ثورة يوليو 1919 إلى مرحلة التسعينيات، واصفاً التغيرات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي مر بها مجتمعه، بذكاء وبحرفية مبهرة.

لا يمكننا في هذه المساحة الضيقة أن نُلِمّ بعوامل نجاح أعمال كُتّاب الدراما من أمثال أسامة، ووحيد حامد، ومحمد صفاء عامر، ومحمد جلال، ود. وليد سيف وغيرهم، ولكن يجدر بنا الإشارة إلى أن أسامة، كنموذج، قد تلقى تعليمه من كبار الأساتذة والمعلمين كالدكتور عبد الرحمن بدوي الذي ترجم عشرات الكتب الفلسفية، حتى مزج بين الفلسفة الغربية والشرقية بعبقرية فذة، ومن يقف على أطروحاته لا يستغرب أن يكون أسامة أحد تلاميذه. إلى جانب ذلك، فإن العمل الدرامي لم يكن يرى النور حتى يكتمل الأركان؛ فعند بدء شارة ليالي الحلمية على سبيل المثال، وظهور شعار المسلسل ستقرأ تحته بخط صغير كلمة «خضير» وهو اسم الخطاط المصري خضير البور سعيدي الذي يُعد اليوم أحد أبرز الخطاطين العرب. وإذا استمعت إلى الأغنية فستُشنّف مسامعك بعذوبة صوت محمد الحلو الذي تغنى بكلمات الشاعر الكبير سيد حجاب التي لحّنها العذب عمّار الشريعي، وتُوّج ذلك كله بإخراج إسماعيل عبد الحافظ، أحد أقطاب الدراما العربية، ناهيك عن النجوم الثلاثمائة الذين اجتمعوا في 165 حلقة ليبدعوا عملاً مبهراً حد الثمالة.

لقد كانت الدراما العربية، في الثمانينيات والتسعينيات، كالرواية العربية، انعكاساً لقضايا المجتمع وهمومه، ولم تتخذ الشعار الزائف «الجمهور عاوز كده» فالجمهور لا يصنع الرأي العام، بل رموزه من مفكرين وأدباء وساسة وغيرهم من قادة الرأي من يفعلون ذلك. ولهذا كان كُتَّاب الدراما في تلك الفترة مدركين عظم المسؤولية التي تقع على عاتقهم لمساعدة المجتمع على فهم ذاته وتخطي مشكلاته، إلى جانب زرع القيم الإنسانية النبيلة في نفوس أفراده. يقول د. جابر عصفور إن مسلسل الشهد والدموع قد فاجأه، وكان يتناقش حول المسلسل مع زملائه لأنه أعاد الاعتبار للمسلسل التليفزيوني، بعد أن كان الناس يأخذونه باستخفاف.

مشكلة الدراما العربية اليوم هي مشكلة نَصّ، فالإمكانات التقنية صارت أكثر تطوراً، لكننا في حاجة إلى أدباء يغوصون في تفاصيل مجتمعهم حتى يستوعبوه جيداً، ثم يشخصوه بواقعية ودون خوف أو مُجاملة؛ فمهمة الأديب أن يُظهر الحقيقة لا أن يُجمّلها. نسيت أن أقول لكم إنني عندما شاهدتُ ليالي الحلمية عام 1987 كان عمري تسعة أعوام، وكُنتُ أشاهده مع أبي. ابني سعيد عمره الآن تسعة أعوام، وكل ما يمكنه مشاهدته هي مسلسلات الكرتون الأجنبية التي لا أستسيغها، فمتى تعود ليالي الحلمية حتى نشاهدها أنا وسعيد معاً؟

المصدر: صحيفة الشرق