في كل مرة أجلس فيها مع الدكتور محمد شحرور وأستمع له متحدثاً عن قراءته المعاصرة للتنزيل الحكيم، برؤية مختلفة وتفكير خارج عن المعتاد ومناقض – أحياناً كثيرة – لما في حكم المسلمات المتوارثة، أتساءل: لماذا يخاف البعض في مجتمعاتنا العربية والإسلامية من التجديد والاجتهاد في قراءة النص القرآني؟
الدكتور محمد شحرور، وعلى مدى خمسين عاماً، أسس لمشروع فكري مختلف يعيد عبره قراءة التنزيل الحكيم بفكر ولغة العصر، وفي ذلك تأكيد لأن فهم القرآن الكريم ليس خاصاً بجيل معين أو زمان محدد، وإنما تحتاج معانيه وأفكاره لقراءات مستمرة وعبر أزمنة مختلفة. أي أن كل جيل يستطيع قراءته وتفسيره، وفقاً لمعطيات عصره وفي ذلك وجه من وجوه عظمة هذا الكتاب الكريم. المؤسف أن أغلب من ينتقد محمد شحرور، خصوصاً بعد إصدار كتابه الأول «الكتاب والقرآن»، عام 1990، قليلاً ما ناقشوا الفكرة بدلاً من «شخصنة» النقد أو البحث في تخصص الدكتور شحرور الأكاديمي أو قضايا أخرى ليست في صميم ما يطرحه محمد شحرور في قراءته المختلفة للتنزيل الحكيم.
د. محمد شحرور يسعى خلال مشروعه إلى قراءة التنزيل الحكيم بعقل من يقرأه، في زماننا المعاصر أو حتى في العصور القادمة. وما يميز د. شحرور في مشروعه المهم أنه يفرق بين البحث القائم على النقل والبحث القائم على العقل. من العقل، عند د. شحرور، أن نذهب إلى النص الأصلي، وهو كلام الله، لنفهم دين الله ونتدبر معانيه في اتساق تام مع زماننا، بدلاً من «وراثة» فهم السابقين، وتحويل ذلك الفهم إلى «دين» جديد ليس له علاقة بما أنزله الله في كتابه الكريم. وإذا كان السابقون قد اجتهدوا في قراءة وتفسير التنزيل الحكيم فإن ذلك لا يعني أن تتوقف الأجيال اللاحقة عن القراءة وإعادة القراءة، وفقاً لمعطيات علمية متجددة بعضها يعطي معاني عميقة لما ورد في النص القرآني نفسه.
لماذا نحن ملزمون فقط بما فسره البخاري أو ابن كثير، أو كما يقول محمد شحرور «يعد عند البعض كفراً أن تنتقد البخاري أو ابن كثير»؟! المشكلة هنا في تقديس فهم السابقين، بحيث يصبح ذلك الفهم – في أحيان كثيرة – أهم من النص الأصلي. ولذلك يأتي الرفض الحاد لأي محاولة اجتهاد في قراء جديدة ومختلفة ومتسقة مع العصر للتنزيل الحكيم. أو كما يقول محمد شحرور عن تجربته: «صوتنا بقي ضعيفاً أمام صوت الموروث القائم على الآبائية».
أهمية مشروع محمد شحرور اليوم تأخذ منحى جديداً. إنها في ازدياد. والسبب، في رأيي، أن الملايين من شباب المسلمين بحاجة لفكر يعيد ثقتهم في دينهم. ففي ظل الصورة البشعة التي أعطتها «داعش» ومثيلاتها عن الإسلام، وبعد عقود من هيمنة الخطاب الوعظي الممل، تزداد الحاجة لقراءة عقلانية ومتسقة مع العصر يطمئن لها أولاً المسلمون أنفسهم. وفي هذا السياق، يؤكد شحرورو وهو محق: «إذا بقينا على ما نحن عليه سنصبح خارج التاريخ»!
لكننا اليوم أمام تجربة جديدة إيجابية، تمثلت في الاستقبال المبهر لبرنامج «النبأ العظيم.. قراءة معاصرة للتنزيل الحكيم مع محمد شحرور» الذي يُبث يومياً، خلال رمضان الحالي، عبر قناة «روتانا خليجية». كمشرف على البرنامج، ومع فريق العمل في الشركة المنتجة، رصدنا ردود فعل إيجابية مبهرة على ما يطرحه يومياً د. شحرور. وإذا أخذنا التفاعل الكبير عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتعليقات الكثيرة على الحلقات المتاحة على «اليوتيوب» كمقياس للتفاعل مع أفكار محمد شحرور، فلنا أن نطمئن أن أجيالاً مسلمة قادمة ستحرر عقولها من تقديس فهم السابقين، وسترحب بالاجتهاد والتجديد في قراءة التنزيل الحكيم وفي قراءة وفهم التراث وقصص التاريخ.
واضح تماماً أن آلاف من الشباب المسلم اليوم يبحث عن قراءة بديلة للنصوص والتراث الإسلامي، قراءة متسقة مع زماننا وقوامها العقل والمعرفة. ما يطرحه د. شحرور لا يشكل فقط فتحاً مهماً في حل إشكالات معقدة مع الفهم القديم للتنزيل الحكيم ولكنه -أيضاً – وكما يؤكد دائماً د. شحرور، يعمل على تحرير المسلم من «عقدة الذنب» التي كبلت حركة وتفكير العقل العربي لقرون طويلة. وإذ نحتفل بنجاح الموسم الأول من «النبأ العظيم»، وبما يقدمه من جرعات فكرية عميقة يصدمنا بها يومياً د. شحرور، وبوعي مقدم البرنامج المتميز، يحيى الأمير، فإننا نتطلع لمواسم قادمة من هذه التجربة الفكرية المبهرة. إننا حقاً – كما يقول محمد شحرور – مطالبون بأن «نفهم الإسلام، كما أرسله الله لا كما قرأه الفقهاء وطبقته داعش»!
المصدر: الاتحاد