عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي
لقد سقط الإسلام السياسي سقطة مروعة، ليس في مصر وحسب، بل في تونس واليمن وليبيا والجزائر. وبالطبع فإن المشهد العام في العالم العربي واحد بعد الثورات، لكن المتغيرات المحلية تبرز هذا البعد أو ذاك في كل حالة ضمن المشهد العام. فعلى سبيل المثال احتاج الأمر إلى الجيش في مصر لإزالة «الإخوان» من السلطة، لكنه لو لم يتدخل لسقطت سلطة «الإخوان» في فوضى شعبية عارمة خلال أشهر تؤدي إلى غرقهم في المشهد. وفي اليمن شارك «الإخوان» التيارات السياسية الأخرى في التمرد على حكم علي عبد الله صالح. لكنهم – مثل مصر – أرادوا التخلي عن هذه الشراكة بعد إقصاء صالح في حل سياسي جرى التفاوض عليه مع رعاة المبادرة الخليجية. بيد أن الذي يوشك أن يحل محل نظام صالح، ليس الإسلام السياسي الإخواني، بل الفوضى العارمة الحافلة بالمذهبيات والانفصاليات والقبليات. وفي تونس تتهادى حركة النهضة باتجاه السقوط غير المدوي. وفي الجزائر ضاع الإسلام السياسي منذ سنوات بين الجيش وكوادر حزب جبهة التحرير والأصوليات المقاتلة. وما كان الإسلاميون الحزبيون أقوياء أو راجحي الكفة في ليبيا وسوريا. لكن القوة النسبية التي أكسبتهم إياها الثورات، توشك أن تضيع بين المسلحين ونوافر المحليات والعلاقات الدولية. فالأمر في كل الحالات يتراوح ظاهرا بين السقوط السريع أو السقوط البطيء، لكنه سقوط لا مرد له ولا مخرج منه. والسبب الظاهر هو العجز عن إدارة الشأن العام بنجاح وسط المتغيرات في أزمنة الاضطراب والموران الاجتماعي المتفاقم. وقد كنت أسخر من كتابات الأوروبيين المتشككين في عام 2011، بحجة أن الثورات تصنعها النخب ذات المبادرات التاريخية، بينما لا يملك الحراك الشبابي العربي نخبة قادرة أو رؤيوية. وقد تبين أن هواجس المتشككين في صلابة ورؤيوية الثائرين كانت محقة، لكن هؤلاء الثوريين سرعان ما تواروا من المشهد لتحل محلهم أحزاب الإسلام السياسي التي ما تنبأ بسطوتها المراقبون الأوروبيون. أما الأميركيون فقد سارعوا إلى تبني جماعات الحراك المدني ثم سارعوا لاهثين إلى تبني صاعدي الإسلام السياسي. وهم يقفون الآن حائرين أمام عودة العسكر أو كوادر الدولة القديمة، أو الفئتين معا.
لقد ثار الشبان إذن على الاستبداد والفساد. ثم جاءت التطورات والانتخابات بخلائط وأمزجة طفا على سطحها الإسلام السياسي بكوادره وحزبياته وعلائقه المتشابكة في المدن والأرياف. وفي الحالتين «الصافيتين» بمصر وتونس، وجد هؤلاء أنفسهم واقعين بين شريكين أو ساعيين للشراكة، السلفيين المقبلين على السلطة وعلى «الجهاد» في الوقت نفسه، وكوادر الدولة القديمة التي خذلتها قوات الأمن والجيش إبان الحراك الشبابي. وقد اختاروا أولا السلفيين باعتبارهم من الطينة ذاتها، ثم تجاوزوهم لإجراء مصالحات سريعة مع الكوادر والفئات القديمة. ولأن الفئات القديمة المتجذرة في الدولة والمجتمع أدركت سريعا ضرورتها لتسيير الأمور في البلاد، فقد تخلت بسرعة عن الإسلاميين: في تونس باتجاه العمل مع القوى السياسية المعارضة للإسلاميين، وفي مصر باتجاه الجيش للخلاص من السادة الجدد.
فما معنى ما يحصل الآن في حالتى مصر وتونس؟ هل هي عودة للجيش والأمن والفئات القديمة في مصر، وللفئات والكوادر والأحزاب في تونس؟ وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي يعنيه الأمر في سياقه العام؟ إن الأمر في سياقه العام يعني فشلا ذريعا للإسلام السياسي، وقبل ذلك فإنه يعني عجزا عن اصطناع بديل أو بدائل من جانب القوى الشبابية ما كانت تملك مشروعا غير المشروع العادي للدولة الديمقراطية في زمن العولمة. وإذا شئنا التحديد أكثر، فإن القوى الشبابية إنما كانت تسير باتجاه زمن مثل الزمن الذي بزغ في شرق أوروبا في التسعينات من القرن الماضي: تسقط السلطة الاستبدادية، ويسقط حزبها الأوحد، وتظهر تعددية حزبية يرعاها المثال الأوروبي للديمقراطية الليبرالية أو شبه الليبرالية. وبالفعل فإنه وفي زمن الاضطراب في روسيا الاتحادية، تقدم الأوروبيون في غرب أوروبا ووسطها لاحتضان الدول والدويلات الجديدة، كما اندفع الأميركيون في زمن الهيمنة ذاك لدعم الأوروبيين في محاولتهم الاستيعابية من طريق الحيلولة دون التدخل الروسي. وما لقي الشباب التغييريون في العالم العربي حاضنا من أي جهة. لكنهم وفي الشهور القليلة التي بدا أنهم قد تسلموا الزمام فيها، انهمكوا في الانقسام على أنفسهم، كما انهمكوا في مصارعة بقايا الأنظمة المتساقطة. وبعبارة أخرى فإنهم انهمكوا في الصراع على السلطة قبل أن يتسلموها. ولأنهم ما كانوا ذوي طبائع انقلابية أو ثورية جذرية، فإنهم وكما سبق القول، دخلوا أو أدخلوا في الآليات الديمقراطية العادية، وبذلك فقد صاروا ضحايا لها لحساب الإسلاميين. لقد انتهت فاعليتهم بالعجز عن بناء نظام جديد. والطريف أنهم عندما أوهموا بعودة زاخرة في مظاهرات 30 يونيو (حزيران)، عادوا في حضانة الجيش، والذين مات مئات منهم عام 2012 لتسريع خروجه من السلطة بعد سقوط الرؤساء! فالعجز في حالتهم بنيوي، ويتعلق بالثقافة السياسية، كما يتعلق بالبنية الاجتماعية الهشة التي استندوا إليها في تحركاتهم.
أما الإسلاميون الذين أفلسوا في السلطة بسرعة قياسية، فإن أمرهم مختلف أو إن أسباب فشلهم مختلفة. فقد كانت لديهم تنظيمات قديمة أو جديدة واسعة وصلبة. ولديهم قاعدة اجتماعية معتبرة. ولهذين السببين وصلوا ظاهرا للسلطة ومن خلال الآليات الديمقراطية. أما الواقع فإن وصولهم للسلطة كان نتيجة تسوية من نوع ما مع الجيش، ومع القوى القديمة، ومع الولايات المتحدة. وفي حين أن كوادرهم وجمهورهم عقائديان، فإن قيادة التنظيم هي التي أنجزت كل تلك التسويات. ولهذا فقد وقعوا منذ البداية بين الشركين: شرك البراغماتية المسرفة في العملية والأداتية، وشرك الإصغاء لمشروعهم الأصلي في اصطناع شرعية جديدة من طريق التمكين والانفراد بالسلطة. ولذا كان بوسع أنصارهم بالداخل والخارج أن يذكروا عشرات الأمثلة للتنازلات التي قاموا بها، كما كان بوسع خصومهم أن يذكروا عشرات الأمثلة على إرادة الاستيلاء على الدولة والمجتمع من جانبهم. وعلى سبيل المثال فإن الدستور الذي اشترعوه جاء خليطا من التسويات بينهم وبين السلفيين والفقهاء الدستوريين المتأسلمين وغير المتأسلمين. وعلى سبيل المثال فإنهم أعطوا الجيش من الامتيازات وفي النص الدستوري ما لم يكن له أيام مبارك. وعلى سبيل المثال أيضا فإنهم بدأوا حكمهم بمصارعة الأزهر على المرجعية في الدين، وانتهوا إلى إعطاء الأزهر المرجعية الدستورية في الدين والدولة والمجتمع! وفي الوقت نفسه فإنهم انصرفوا لمصارعة جهاز الدولة البيروقراطي بإحلال أنصارهم وأقاربهم فيه. وقبل سقوطهم بأسابيع عينوا أربعة وعشرين محافظا أكثرهم من محازبيهم. وعملوا منذ البداية على الاستيلاء على الإعلام وعلى القضاء وعلى النيابات العامة وعلى أجهزة الأمن. وما كانت الدوافع العقائدية هي الغالبة في ذلك كله، بل إنهم تصرفوا أحيانا بوحي من مشكلاتهم مع تلك الجهات تاريخيا أو في زمن مبارك بالذات. ولذا وبخلاف الحالة مع الشبان التغييريين الذين فشلوا أو عجزوا لعدم اكتمال تكوينهم الاجتماعي والسياسي، فإن سقوط الإسلاميين كان بسبب فشل مشروعهم في الاختبار الأول له في السلطة وهو المشروع الذي عملوا له منذ عودتهم من المنافي وخروجهم من السجون في سبعينات القرن الماضي!
ما الوضع الآن، وما البدائل؟ كنت أرى أن سقوط الاستبداد وحكومات الفساد، يستتبع حكما سقوط النقيض الإسلامي الجهادي والتنظيمي. وقد سقط النظام السائد منذ الستينات بالفعل في الثورات، وسقط الآن نقيضه الإحيائي والأصولي. وتعود بيروقراطية الدولة إلى الانتظام بالتدريج لحفظ مصالح الناس الأساسية. وهناك حاجة قوية جدا لنظام سياسي جديد، لا تعوض عنه عودة الفئات القديمة، ولا عودة العسكر، ولا جهاديات الإسلاميين ومظاهراتهم. إنما بعد هذه السنوات الثلاث لا تبدو البدائل حاضرة، وهذه هي المشكلة التي يرجو الجميع أن لا تظل مستعصية فتنتشر الفوضى.
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط