رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

سياسات الهوية وهيبة الدولة والصراع الدولي

آراء

تعاظمت قصة المعارض نافالني الروسي – البريطاني المتكأكئة من عدة سنوات بادعاء أن الاستخبارات الروسية حاولت تسميمه، ونجّاه الطب البريطاني من الموت. المحكمة البريطانية اتهمت ضباط مخابرات روسية بالعملية، وأصدرت على اثنين منهم أحكاماً غيابية. ودول الاتحاد الأوروبي سارت وراء بريطانيا في فرض عقوبات ذات طبيعة دبلوماسية على روسيا الاتحادية. والآن وليس عندما ثبتت الادعاءات بحكم المحكمة، أجابت روسيا بإجراء مماثل على دبلوماسيّي الدول التي تضامنت مع بريطانيا، وهو الأمر الذي تظلمت منه ألمانيا الاتحادية باعتبار أنه لا دخل لها في النزاع! في العادة، فإن العقوبات المتبادلة وخلال الحرب الباردة وما بعدها، كانت تجري في العالم الغربي بين الولايات المتحدة وروسيا السوفياتية ثم الاتحادية. إنما في العقدين الأخيرين تعددت المشكلات الأمنية والسياسية بين روسيا والأوروبيين، ومن جورجيا وأبخازيا وإلى المشكلتين المهمتين الأخيرتين في أوكرانيا وشبه جزيرة القرم وإلى روسيا البيضاء. وتقع كل هذه المشكلات بحسب المحللين تحت عنوان: عودة روسيا الدولة العظمى بمصالحها الاستراتيجية الباقية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي. وهو الأمر الذي بدا أيضاً في قضية ناغورنو قره باغ أو الخصومة بين أذربيجان وأرمينيا. فقد تدخلت روسيا هذه المرة لصالح أذربيجان، وفرضت وقفاً لإطلاق النار، وأشركت معها في الحسْم تركيا بدلاً من مجموعة مينسك الأوروبية التي تترأسُها فرنسا!

هناك مصطلح فرنسي لهيبة الدولة هو Raison d’état، وليس له مقابل بالعربية، وربما لم يكن له مقابل في بقية اللغات الأوروبية. أما العرب القُدامى فكانوا يستعملون للتعبير عن هيبة الدولة مفرد الآيين الفارسي القديم، وكان خاصاً عند الساسانيين بتقاليد البلاط الملكي أو الإمبراطوري، وكيف يتعامل كسرى ضمن تقاليد نظام الطبقات مع موظفي البلاط، ومع فئات الرعايا. لكن الذي نعيشه في العقدين الأخيرين على المستوى الدولي أمر يتعلق باكتساب المشروعية من طريق سلوك معين في السياسات الخارجية للدولة. صارت مسائل الهوية التي تضج بها الأسماع والكتابات، خاصة بالسياسات الداخلية، وسواءٌ أكان الحرصُ عليها باسم الدين أو الإثنية أو القومية. أما السياسات الخارجية للدولة فهي سياسات «المجال الحيوي». ما عادت هناك دولة أو دولتان تستطيعان السيطرة على العالم. والكلام على تعدد الأقطاب التي ينبغي أن تصبح هي عماد النظام العالمي، ما يزال أمراً في عداد الآمال والأمنيات. وقد كان هذا معنى وجود 5 دول ثابتة العضوية في مجلس الأمن. فلا أحد يستطيع الاستئثار بالقرار في مجال أمن العالم. صحيح أنه كان هناك طموح أميركي غلاب للهيمنة على العالم اقتصادياً وعسكرياً. إنما كان الاتجاه العام هو إسقاط مقولة وممارسة «المجال الحيوي» الذي كان فلسفة وممارسة لألمانيا منذ القرن التاسع عشر بعد الوحدة، وإلى هتلر والحرب الثانية.

إن الذي يعود الآن هو سياسات وممارسات «المجال الحيوي» إنما في سياقات أخرى، هي سياقات تقوية الدولة الوطنية للحيلولة دون فوضى العولمة. فروسيا ما أعادت بناء الإمبراطورية الروسية القديمة أو السوفياتية، وإنما انتزعت لنفسها مجالاً حيوياً أو أمناً استراتيجياً في المنطقة الأوروآسيوية. والصين فعلت الشيء نفسه في جوارها. ولنلاحظ أن إيران لم تنزعج كثيراً للتدخل التركي في أذربيجان، لأنها منذ قيام الثورة اعتبرت الجوار العربي هو مجالها الحيوي أو الاستراتيجي في العراق وسوريا ولبنان! ولنتابع ما تفعله تركيا في شرق المتوسط وفي ليبيا وسوريا حتى في البحر الأسود. هي الفلسفة الجديدة للدولة الوطنية القوية، قائد شعبوي بالداخل يتصرف كما يشاء، وتوسُع خارجي في الجوار والمحيط، للوصول إلى الرفاهية «الآمنة». أما ما يحصل بعد ذلك من توسُع مثلما تفعل الصين وتركيا في أفريقيا، وترمي إليه الصين من وراء «الحزام والطريق» فهي نوافل وليس من أجل الأمن الاستراتيجي المتحقق للدولة الوطنية القوية؛ بل من أجل ثمرات ذلك الأمن من خلال السوق المحقِق أو الضامن للرفاهية. الصين تعرض في أفريقيا سلعاً رخيصة، أما تركيا فتعرض سلعاً رخيصة وجودة أوروبية.

هذه هي العولمة بظواهرها المتناقضة. فهي لا تقود إلى التشابك المُفضي للتعاون والتضامن، كما تريد منظمة التجارة العالمية، ومنظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأغذية والزراعة؛ بل إلى التشابك التنافسي الذي تقف فيه قوى إقليمية قوية تتصارع على الأسواق، ولا تثير الحروب فيما بينها، بل على الهوامش وفيها، وعملياً خارج مجال أمنها الاستراتيجي. وبحسب مراقبين كثيرين، ما كان الرئيس ترمب مخطئاً في إرادته سحب قواته من العراق وسوريا، لأن هذه الأقطار ليست جزءاً من المجال الحيوي أو الاستراتيجي، وهي ليست حقاً من مواطن التنافس على السلع والسوق الغنية، في المدى المنظور على الأقل.

لقد كان المعتقد أن الدولة الوطنية أو الوحدات الوطنية ستنحسر في زمن العولمة والتشابك وديمقراطيات السوق الشعبوية ووسائل الاتصال، لكن الذي حصل ويحصل عكس ذلك تماماً. ظهرت الديمقراطيات الشمولية، بحسب تعبير فريد زكريا، وراحت الدول الوطنية تقوى، على تفاوت بالطبع في درجات القوة، وصارت هي البديل عن الفوضى العالمية التي نظر لها اليساريون والخُضر، والذين صاروا اليوم هم الطلائع لليمين الجديد الباحث عن الهوية وعن الحكومة القوية، وعن السوق في الوقت نفسه.

إن هذا كله لا يعني أن الأمور تمر بدون مقاومة. والمقاومة لا تقتصر على التحدد من خلال الصراع بين الأقوياء، بل هناك مقاومة من نوع آخر تتصل بالنزوع إلى مقاربات الكرامة والمقاربات الأخلاقية. فالسياسات الوطنية الصاعدة شديدة الأنانية، ولا تأبه للضعفاء والمهمشين والجوعى في العالم ولا بالأقليات والغرباء والمهاجرين بالدواخل الوطنية. لكن ذلك كله يُعلل بهيبة الدولة، وبالخوف من الفوضى، وبالاعتزاز بالهوية الوطنية ومقتضياتها. الخوف على الدولة بالداخل، وهيبة الدولة في المحيط والخارج.

في العام 2013، ومصر في عزّ ثورانها، كتبتُ دراسة عنوانها «مصر… بين الخوف من الدولة والخوف عليها». وها هو آيين الدولة الوطنية القوية ينتصر في مصر، والمأمول أن تسلك الدول العربية المضطربة الآن مسلك مصر إذا أمكنها التخلُص من الميليشيات ومن التبعيات التي فرضتها الدول الإقليمية المتوسعة في مجالاتها الحيوية، وفي أسواقها المتمددة.

ما ظهر بعدُ، النظامُ العالمي الجديد الذي يلائم الأقطاب الجدد، وما أكثرهم. إنه النظام الذي يتكون، ومنطقُه أن كل ديك على مزبلته صيّاح!

المصدر: الشرق الأوسط