ناصر الظاهري
ناصر الظاهري
كاتب إماراتي

مقامة الهمذاني في العيّار الحرامي -1-

آراء

مرة.. ضاعت مني محفظتي في باريس، وأنا نازل من سيارتي في موقف بجانب العمارة، لكنه يطل على تقاطع شوارع، ومحط دوس الأرجل من المارة، انزلقت من جيب البنطال الواسع، موضة ذاك الوقت، وكانت عامرة بالنقود، والبطاقات، والهويات، وفجأة شعرت أن الإنسان في المدن الكبيرة عبارة عن رقم تعريفي، وورقة، وبطاقة، ومجموعة أرقام، وقعت المحفظة في يد شاب لم يرحمها، فأوصلها بعد مدة، ولكنها خاوية، ذاوية، فعنّت لي كتابة مقامة من مقامات الهمذاني في العيّارة والنشّالة، وفي وصف أمين الزمان الحرامي:

أبدأها بالشكر والامتنان، لكلّ من سأل عن حالي، وتلمس أخباري، وأحوالي، في عزّ محنتي، وفقداني محفظتي، وسرقة أموالي، فالمعدن الطيب لا تفضحه النيران، يظل لامعاً براقاً على طول الأزمان، هذا ما غاب عن أصدقاء باريس والجيران، الذين اكتفوا بهزّ رؤوسهم، ورفع كتوفهم، دلائل التأسف والحسران، تذكرت أرض الخير وأهل الخير، وطن الجود والكرم والإحسان، تذكرت كيف إن اشتكى عضو تداعت بالسهر والحمى سائر أعضاء الأبدان، لم تدهشني المفاجأة، ولم يقعدني طلب المكافأة، فهذا دستور آخر الزمان، وليس لي في هذه العاقبة غير الصبر والسلوان.

في بلاد الإفرنج، ليس هناك أخ فتنتخيه، ولا ابن عمّ فتنتصيه، الكلّ يركض وراء الوقت، والعمل، والمال، ولا قيمة لكلمة الرجال، الجميع يرقدون على القرش رقدة الجبان، لذلك اكتفيت بالتحسر والتذمر، ورفع أكف التضرع للمنان، عله يمنن علينا من جود فيضه، ويمنحنا من واسع غيضه، ويسخر للمحفظة ابن حلال، لا عابد درهم ودينار وريال. ولما انقضى يوم وشطر من نهار، وأنا كالذي يتقلى على مراجل من نار، عين تناظر الباب، وعين على الهاتف كالمنظار، ولما علّ صبري، ومللت الانتظار، عمدت إلى الطعام، فلم أبق إلا على صحون خالية، وقدور خاوية، وثلاجة ذاوية، ولما انتهيت من وجبة الأسد هذه، عاودني القلق والارتياب، والتفكير بما آلت إليه أموري في بلد الغربة والاغتراب!

وبعد هنيهة، وهنيهات.. حمل لي الهاتف بشارة، في أجمل كلمات: وجدت المحفظة أخي الكريم! ثم طلب الزيارة، رحبت به بحبور، وكدت من فرحتي أن أنثر في طريقه الورد، وأحرق البخور، فقال لي: اهتديت إلى طريقك، من رقم هاتف في محفظتك، لصديقك، لكني وجدتها دسمة بالبطاقات والوعود، غير أنها خالية من النقود، فأضمرتها في نفسي، وقلت الرجل الفطين من يركب الهزيل، حتى يلحق بالسمين، مُدّ له خيطاً يا فَطِن، فلعلك تكون الرابح، وهو المشدود، سألني بماذا عليه سأجود؟ فقلت له الجود من الموجود، فتململ في صوته وهذر كالسكران، وقال: أبعدني عن كلمات الشكر والامتنان والعرفان، فهذه رخيصة في النطق، خفيفة في الميزان، والأفضل منها فرنك فرنسي رنّان، يشفي الموجوع، ويعلل المفجوع، ويسعد الإنسان.. وغداً لنا موعد بهذا الشان.

المصدر: الاتحاد