أنا ومن بعدي الطوفان

ورلد بوليسي جورنال

بقلم: مايكل جينوفيز

نقلاً عن “وورلد بوليسي جورنال”. تصريح حصري وخاص للترجمة والنشر في “هات بوست”

ترجمة: هتلان ميديا

“نحن، ومن بعدنا الطوفان” … عبارة منسوبة إلى مدام دي بومبادور، عشيقة لويس الخامس عشر، ملك فرنسا، ولكنها تنطبق اليوم على أنصار الديمقراطيات الليبرالية التي تواجه مستقبلاً غير واضح نتيجة العولمة والتغيرات الكبيرة المتسارعة. وما سيأتي بعد ذلك ربما يكون أسوأ من أسوأ الديمقراطيات الليبرالية.

بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، احتفل الغرب بانتصار النموذج الخاص به القائم على الديمقراطية واقتصاد السوق، ما جعل فرانسيس فوكوياما يعلن “نهاية التاريخ”، وأصبح كتابه “نهاية التاريخ والإِنسان الأخير” واسع الانتشار، النص شبه الرسمي للتفوق الغربي.

ولكن رسالة فوكوياما الاحتفالية كانت سابقة لأوانها، حيث تسببت عقبات جديدة في إعاقة احتفالات الغرب، فكانت هجمات 11 سبتمبر سبباً في أن يشن الغرب حرباً على عدوٍ ضارٍ ليس له دولة، وكان هذا الصراع عنوان المرحلة خلال الأعوام الخمس عشرة الماضية، ولم تتنه المشكلة بعد.

اليوم، يتمثل الصراع المركزي الذي يواجه الغرب في المعركة بين النموذج الديمقراطي الليبرالي القديم الذي تبدو عليه علامات التداعي والانهيار – والذي يمكن تعريفه بحكومة ذات سلطة محدودة، وسيادة الشعب، وسلطات حكومية منفصلة أو عليها رقابة، وسيادة القانون، واحترام حقوق المواطنين – وبين النموذج الديمقراطي غير الليبرالي الآخذ في الانتشار في

الوقت الراهن، والذي تمكن فيه الانتخابات، التي يكون بعضها مزوراً، الزعيم من تولي سدة الحكم دون قيود.

اقترح أستاذ العلوم السياسية خوان لينز طرح مجموعة من الأسئلة لتكون بمثابة اختبار لتحديد ما إذا كان بلد ما ينجرف نحو الديمقراطية غير الليبرالية وهي: هل يفشل الزعيم في نبذ العنف بشكل لا لبس فيه؟ هل الزعيم على استعداد لتقييد الحقوق المدنية والسياسية؟ هل ينكر الزعيم شرعية الحكومات المنتخبة؟

في أوروبا، يمكن ملاحظة أن الديمقراطية غير الليبرالية أصبحت تهدد العديد من البلدان، ففي تركيا، سحق رجب طيب أردوغان الحقوق المدنية والحريات وهو الآن الحاكم المطلق في البلاد. وفي المجر، يسير فيكتور أوربان على خطى فلاديمير بوتين، وكثيراً ما أشاد أوربان علانية بأسلوب حكم الرجل القوي بوتين. وفي هولندا، يشجع خيرت فيلدرز سياسات قومية شعبوية معارضة للهجرة تهدف إلى تقويض القيم الليبرالية. وفي فرنسا، ركبت مارين لوبان الموجة السياسية، في الوقت الذي تبدو فيه الدولة الليبرالية المتعبة وغير المستقرة غير قادرة على تولي مهام الحكم.

إذا ما طرحنا نفس هذه الأسئلة عن دونالد ترامب، فإن جميع الإجابات تشير نحو الديمقراطية غير الليبرالية، فخلال حملته الانتخابية، شجع ترامب على العنف ضد المعارضة وقال إنه سوف يتكفل بالمصاريف القانونية إذا ما تمت محاكمة أيّ من أنصاره بسبب تلك الأفعال. كما وعد بتعيين مدعٍ خاص لإدانة خصمه هيلاري كلينتون على جرائم مزعومة. وتحدث صراحة عن إيجاد سبل لتغيير قوانين التشهير، وذلك للحد من الحريات الصحفية. وأعلن قبل الانتخابات أن نظام الانتخابات مزور، وحتى بعدما فاز، كتب عبر “تويتر” إنه خسر التصويت الشعبي لأن الملايين صوتوا بطرق غير قانونية، بل إنه ذهب إلى أبعد من ذلك ليدعي إنه حصل على الأغلبية في التصويت الشعبي (هيلاري كلينتون كسبت التصويت الشعبي بفارق 2.9 مليون صوت).

يبدو أن قيم الديمقراطية غير الليبرالية تكتسب شعبية في البلدان التي كانت ديمقراطيات ليبرالية سابقاً، وينطبق ذلك بشكل خاص على البلدان التي أصبحت فيها الهجرة مسألة خلافية، حيث يتم اعتبار الحكومات ذات الصلاحيات المحدودة في الديمقراطيات الليبرالية غير قادرة على تلبية مطالب المواطنين، ما يغضب الناخبين ويجعلهم يشعرون بضغوط قوى العولمة والتغييرات المتسارعة، في الوقت الذي تتطور فيه التقنيات وتحدث فيه التغيرات الاجتماعية بسرعة فائقة. ويتم النظر إلى تلك الحكومات على إنها ضعيفة وغير فعالة، ولا تمثل احتياجات المواطن العادي.

في المقابل، فإن الديمقراطية غير الليبرالية وما توعد به من رجل قوي يمكن أن يأتي ويتصرف في ظل قيود قليلة، تبدو شكلاً أكثر سلاسة من أشكال الديمقراطية. وبسبب الضوابط القليلة على السلطة، فإن هذه الحكومات تتحرك بسرعة، الأمر الذي يعكس استجابة أكبر لمتطلبات العصر الحديث. كما تسمح مركزية السلطة للحكومة بإنجاز الأمور بشكل أسرع، إلا أن مركزية السلطة تسمح أيضاً بتطور الديمقراطية غير الليبرالية إلى حالة من الاستبداد، مثل حالة الأوليغارشية (حكم الأقلية) الروسية.

هل يمثل الوضع الحالي مشكلة في القادة، أم مشكلة في الأنظمة؟ إذا كانت المشكلة في القادة، فإن الحل بسيط: انتخاب قادة أفضل. أما إذا كانت المشكلة في الأنظمة، فإن الحل أكثر تعقيداً – الخيارات المتاحة هي التخلي عن الحكومة ذات الصلاحية المحدودة تماماً، أو إيجاد طرق للتغلب على البلادة والجمود التي تدخل في صميم تكوين نسيج الديمقراطية الليبرالية. وبالنظر إلى عدد الدول الغربية التي استسلمت لقيادة غير ليبرالية، فإن المشكلة تبدو منهجية، وقد نحتاج إلى النظر في إعادة تصميم النظام ليناسب الاحتياجات المعاصرة بشكل أفضل. ولتجنب هذا التطور (أو التراجع) في مسار الديمقراطية الليبرالية إلى ديمقراطية غير ليبرالية، يتعين على هؤلاء الذين يعتزون بالضمانات القانونية البحث عن حلول للتغلب على طبيعة الحكم الجامدة، وتمكين الأغلبية المنتخبة من القيادة، وذلك بتسليم دفة الحكم إلى دعاة الديمقراطية الليبرالية. يعود السبب في جمود الديمقراطيات الليبرالية في كثير من الحالات إلى المجتمعات المنقسمة بشدة، وللحد من جاذبية الديمقراطيات غير الليبرالية، علينا بدء حوار يهدف إلى تحقيق توافق مجتمعي حول الأخطاء وكيفية تصويبها.

الخوف الأكبر يكمن في أن الابتعاد عن الليبرالية والاتجاه نحو الديمقراطية غير الليبرالية سوف يسهم في تغيير أخلاقيات الحكم بشكل كبير، ويتسبب في تضاؤل التزام الشعب بحكم القانون. وإذا لم ندافع عن الديمقراطية الليبرالية، فإننا نفتح الباب على مصراعية أمام “الطوفان”.

*****

مايكل جينوفيز رئيس معهد السياسات العالمية في جامعة لويولا ماريماونت، ومؤلف 50 كتاباً من بينها “قوة الحرب في عصر الإرهاب” (الناشر: بالجريف ماكميلان).

الصورة من موقع وورلد بوليسي جورنال نقلاً عن Daurleihgabe der HypoVereinsbank

المقال باللغة الإنجليزية على موقع “وورلد بوليسيي جورنال”