جرائم الشرف: سرد حكاياتهن لن يوقف القتل

ورلد بوليسي جورنال

بقلم: رفيعه زكريا*

تصريح حصري وخاص من “وورلد بوليسي جورنال” للترجمة والنشر في “هات بوست”

ترجمة: هتلان ميديا 

ما زلت أتذكر المرة الأولى التي قرأت فيها مصطلح “جرائم الشرف”. كان ذلك في مجلة أحضرها أبي معه في بداية تسعينات القرن الماضي، وكنت وقتها فتاة صغيرة في باكستان، الدولة التي دخلت الديمقراطية حديثاً. إحدى مزايا الديمقراطية أن المجلات التي كانت تخضع للرقابة قبل ذلك في ظل الأحكام العرفية، يمكنها الآن الكتابة عن مثل هذه الأمور. كانت قصة تقشعر لها الأبدان؛ فتاة هربت من منزلها لتتزوج من حبيبها سراً. جهز الاثنان عش الزوجية في مكان هادئ بعيداً عن الأنظار في مدينة نائية. وفي أحد الأيام بعد بضعة أشهر من استقرار الزوجين في ذلك المكان، شاهد الزوجة أحد أقاربها البعيدين صدفة في تلك المدينة وهي تتسوق هناك، فتتبعها حتى عرف مكان منزلها وسرعان ما أخبر أسرتها التي تعيش على بعد مئات الأميال، عن مكان وجودها. وبعد أيام قليلة، قرع كل من والدها وشقيقها الباب وبمجرد أن فتحت قابلاها بوابل من الرصاص فسقطت قتيلة على باب بيتها في الحال.كانت قصة مرعبة،غير إنني قرأتها مرات عدة.

كانت عائلتي مسلمة ومحافظة إلى حد كبير، فكنت أذهب إلى مدرسة للبنات فقط، وكان غير مسموح أن يكون لي أصدقاء من الجنس الآخر أو حتى أن أتحدث مع رجل غريب. لم تكن تلك الأمور هي التي أصابتني بالحيرة والارتباك، وإنما ما استوقني هو التحول الظاهر والمفاجئ لرجال عاديين إلى قتلة وسافكي دماء، واستبدال الغضب القاتل محل الحب الأبوي والمودة الأخوية. وأعتقد أن معظم من قرأوا عن جرائم الشرف يشاطرونني هذا الشعور من الاشمئزاز المصحوب بالحيرة.

مرت عقود منذ أن قرأت تلك القصة ومثلها الكثير. خارج باكستان، في عالم الصحافة وجمعيات الدفاع عن حقوق الإنسان العالمية، وأخبار الصراعات والحروب، أصبحت “جرائم الشرف” أحد المعايير التي تحدد الدرجة القصوى من الفساد الأخلاقي، وأصبح سرد قصص لنساء يتعرضن للخطر أو القتل، مع التأكيد على قسوة من يضطهدونهن واستخفاف وقسوة قلوب جمهور المتفرجين، يشكل نوعاً من فضيلة أخلاقية يمكن أن نتفق في الثناء عليها جميعاً على الرغم من انقساماتنا العديدة.

انتشار القصص

على الرغم من زيادة معدلات الكتابة عن هذه القصص التي تصيب الجمهور الغربي بالصدمة، استمرت جرائم الشرف وربما أصحبت أكثر شيوعاً. في مقال نشرته مؤخراً في جريدة “دون” (Dawn)، أكبر صحيفة ناطقة بالإنجليزية في باكستان حيث أكتب عموداً صحفياً، قارنت عدد جرائم الشرف خلال فترة سنتين يفصل بينهما عقد من الزمان. فبين الأول من فبراير2004 والأول من فبراير 2006، تم الإبلاغ عن 988 جريمة شرف في باكستان. وبعد عشر سنوات، أي بين عامي 2014 و 2016، وصل عدد جرائم الشرف في البلاد إلى1276جريمة. ويصبح ذلك الرقم أكثر إثارة للقلق عندما نعلم أن البرلمان أقر تشريعات تستهدف جرائم الشرف على وجه التحديد خلال ذلك العقد، مع ملاحظة أن الأعداد الحقيقية أعلى من تلك الأرقام بكثير لأن معظم هذه الجرائم لا يتم الابلاغ عنها، فعندما يكون الهدف من تلك الجرائم إنقاذ سمعة العائلة أو القبيلة، يصعب في الغالب الحصول على معلومات عنها.

جرائم الشرف المتزايدة ليست مشكلة باكستان وحدها، فوفقاً لمقال نشر عام 2010 في مجلة الشرق الأوسط ربع السنوية (Middle East Quarterly)، هناك اتجاه تصاعدي عالمي في أعداد جرائم الشرف، والتي “تسارعت بشكل كبير” بين عامي 1989 و2009.

في مارس 2015، سردت أليسا روبين، مراسلة صحيفة نيويورك تايمز في أفغانستان، قصة النساء الأفغانيات الهاربات من جرائم الشرف واللاتي يتم احتضانهن في مأوى ممول من دول غربية. أخبرت تلك النساء روبين أنهن كن يخشين انسحاب الولايات المتحدة لأن ذلك سيتركهن دون حماية تحت رحمة آبائهن وإخوتهن الذين يمكن أن يقتلهن. ويؤكد السطر الأخير من القصة هذا الكلام، فتقول إحداهن “خذونا خارج أفغانستان، لأننا لن نتمكن من أن نعيش في سلام هنا”. وتظهر هنا الاستغاثة الموجهة للقارئ الغربي – المنقذ أو المخلص المحتمل – مباشرة وصريحة. العملية الحسابية الأخلاقية في هذا المقال بسيطة: سرد قصص هؤلاء النسوة للقارئ الغربي يلفت الانتباه إليهن، الأمر الذي يمكن أن ينقذهن ويساهم في المشروع الأكبر ألا وهو وضع حد لجرائم الشرف.

هذا الافتراض الأخير يجب أن يكون موضع تساؤل في ضوء الزيادة المستمرة في أعداد جرائم الشرف رغم الجهود المبذولة للكتابة عنها والتعريف بها ونشرها، فمرور عشرات السنين منذ الاعتماد الضمني لمعادلة “الإشهار والفضيحة” عزز من ترسيخ هذه القصص في المنطق الأخلاقي لمن يستهلكون هذه الحكايات التي تساهم في أن يعتقد هؤلاء، ومعظمهم من الغربيين ومن النخب الليبرالية داخل الثقافات التي تحدث فيها تلك الجرائم، بأن قراءة قصص جرائم الشرف أو مشاهدة أفلام وثائقية حولها هي في حد ذاتها”جهود”يقومون بها من شأنها أن تضع حداً لتلك الجرائم. فهم يفترضون أن السمعة السيئة، والدعاية السلبية، ونشر القصص عوامل ستساهم بالتدريج في إحداث التغيير الأخلاقي المنشود في تلك المجتمعات.

هذه الحسابات خاطئة تماماً، فإن كان الغرض من سرد قصص جرائم الشرف هو إحداث نقلة أخلاقية في المجتمعات التي تسود فيها تلك الجرائم، فهذا المشروع محكوم عليه بالفشل. الاهتمام العالمي بهذه القضية، عبر وسائل الإعلام أو صناعة الأفلام الوثائقية، قد يمنح المصداقية الأخلاقية لمن يسردون القصص ويمنح المستهلكين الشعور بالتفوق وأنهم يشاركون في عمل ما. ولكن ذلك لم ولن يُحدث التحول الأخلاقي المطلوب للحد من هذه الجرائم. الاعتراف بأن الغرض الأساسي من أنشطة الدفاع وسرد القصص هو التأكيد على مجموعة واحدة من المبادئ (التي تعارض وتشجب جرائم الشرف) ليس هزيمة ولكنه تقليل من قيمتها. إذا كان الهدف من المشروع هو إحداث تغيير للأفضل، فإن موضوع التواطؤ، وكيف أن طريقة سرد القصص فاشلة شكلاً وموضوعاً في إحداث التحول الأخلاقي المنشود، أمر بالغ الأهمية.

أكثر من مجرد قصة

في صيف عام 2002، قامت سيدة تدعى “مختار ماي” من قرية ميروالا في جنوب البنجاب، بعمل لا يمكن تصوره، فقد قررت أن تحصل على العدالة بيديها، متحدية رجال قريتها. قبل بضعة أسابيع، يوم السبت 22 يونيو، تعرضت مختار لعمل انتقامي له صلة بالشرف، حيث صدرت الأوامر لرجال من قريتها باغتصابها بشكل جماعي. لم يكن ذلك عقاباً لأي خطأ من جانبها، ولكنه انتقام لمزاعم اغتصاب شقيقها لامرأة من عشيرة أخرى. وعقب الاغتصاب الجماعي، ساروا بالمرأة في حارات قريتها وملابسها ممزقة وجسدها ملئ بالجروح. كان من المتوقع أن تقتل مختار نفسها بعد هذا الإذلال، وتنهي حياتها التي افترض الجميع أنه لا يمكن إعادة تأهيلها مرة أخرى. وفي حين استسلم الآخرون لليأس، ثابرت مختار ، فلم ترفع قضية على مغتصبيها فحسب، وإنما أقسمت بألا تتخلى عن حقها حتى تحصل على العدالة وتنهي تلك الممارسات الدنيئة من اغتصاب وقتل النساء باسم الشرف.

قابلت مختار بعد عدة سنوات في الولايات المتحدة. كنت محامية جديدة أعمل مع عدة مجموعات من جاليات جنوب آسيا للدفاع عن ضحايا جرائم الشرف في باكستان. كنا نتصور أن العمل عن بعد يبعدنا عن فوهة المدفع التي يتعرض لها الناشطون الباكستانيون المحليون الذين يعملون على هذه القضايا. كان موضوع نضال “مختار” قد اكتسب اهتماماً دولياً قبل عام أو نحو ذلك عندما كتب عنها نيكولاس كريستوف في عموده في صحيفة “نيويورك تايمز”. وفي صيف عام 2005، تمت دعوة مختار للحضور إلى أمريكا، وكان من بين أسباب دعوتها تسلم جائزة “امرأة العام” من مجلة “غلامور”. حاولت الحكومة العسكرية في باكستان، تحت قيادة الجنرال برويز مشرف، منع مختار من مغادرة البلاد ولكن سمحت لها بالذهاب في اللحظة الأخيرة.

قابلت مختار في اليوم الذي كانت ستزور فيه البيت الأبيض، والذي كانت تشغله آنذاك إدارة جورج دبليو بوش. لم تكن مختار تجيد الإنجليزية، وقد اتفقت معها على أن أكون المترجمة الخاصة لها. التقينا في مقهى ليس بعيداً عن 1600 شارع بنسلفانيا.كان المقهى يعج بالأشخاص الذين يركضون للحاق باجتماعاتهم أو الذين انتهوا منها للتو. وعلى الرغم من وجودها بعيداً عن قريتها وفي هذه البيئة السريعة المتلاحقة، حافظت مختار على رباطة جأشها وهدوئها. كانت كل من مختار ورفيقتها نسيم ترتدي ملابس قطنية بسيطة وطرحة طويلة، دون أية مظاهر للزينة سوى بعض الكحل حول العينين. ضحكنا على الشاي الخفيف الذي كان يقدمه المقهى. وقالت مختار بهدوء أنها كانت متعبة قليلاً وأن الأمريكيين متطفلون وعدوانيون بشكل غير متوقع.

كان ذلك الاجتماع مع رجل، وكيل وزارة لا أتذكر منصبه بالضبط. لم يكن مكتبه في البيت الأبيض نفسه، ولكن في مبنى المكاتب المجاور، وهي إشارة على أنه أقل أهمية في حسابات القوة والقرب. خرج الرجل بشعره الأملس من وراء مكتبه ليرحب بنا. صافحنا بقبضة يد قوية، وطلب من مختار ونسيم أن تجلسا على الأريكة الصفراء الباهتة مقابل الجدار. وسحب كرسياً وجلس عبر الطاولة مقابلهم مباشرة، وكان يميل إلى الأمام للاقتراب قدر الإمكان. وجلست أنا على مقعد جانبي. عندما جلس الجميع، عقد الرجل أصابعه محدقاً في مختار بشكل حاد وقال لها: “أريدك أن تعرفي أنني أعتقد أنك امرأة شجاعة بشكل مذهل”، وقمت أنا بالترجمة. كانت مختار مرتبكة قليلاً ولكنها هزت رأسها وتمتمت ببعض كلمات شكر.

لم يرفع الرجل عينيه من على مختار وتابع حديثه ببطء وهو يؤكد على كل كلمة من كلامه: “الآن أريد منك أن تخبريني ما حدث بالضبط”. ترجمت الكلام لمختار فنظرت إلىّ وسألت: “ماذا يقصد؟ ألا يعلم ما حدث لي”؟ وقمت بترجمة كلامها. بدأ الرجل يتصبب عرقاً، ومواصلاً تحديقه في مختار كرر كلامه ببطء هذه المرة: “أريد منها أن تقول لي ما حدث بالضبط. أريد أن أسمع ذلك منها”. توليت الترجمة، فنظرت مختار إلىّ وقالت: “الكل يعرف قصتي. فقط قولي له إن العديد من الرجال ألحقوا بي العار، وأنني لست على استعداد للتخلي عن معركتي من أجل العدالة”. ومرة أخرى، ترجمت كلامها.

كان وكيل الوزارة غير راضٍ. وهو لا يزال يميل إلى الأمام محدقاً في مختار، واصل الضغط: “أود أن أسمع تفاصيل ما حدث في ذلك اليوم منها مباشرة”. ولكن مختار لم تتحمل المزيد وقالت لي بصوت هادئ ولكنه حازم: “لا أستطيع سرد التفاصيل مرة أخرى أمام هذا الرجل. الأمر صعب بالنسبة لي. أود أن أغادر”. وهي لا تزال جالسة في مكانها على الأريكة، أخذت مختار طرف الوشاح الكبير الذي كانت تغطي به النصف العلوي من جسدها وغطت به وجهها كما لو كانت تحمي نفسها. وهنا تكلمت نسيم، التي كانت تراقب ما يجري بصمت: “كيف يمكن لهذا الرجل أن يسأل مثل هذه الأسئلة؟ عليه أن يخجل من نفسه”. سألتها إن كانت تريد مني أن أترجم ذلك الكلام له ولكنها قالت “لا”. غادرنا بعد ذلك بوقت قصير. وفي طريق العودة إلى الفندق، قالت مختار إنها تعبت من سرد قصتها، وإنها إنسانة وليست مجرد قصة.

بقيت تلك الحادثة معي، وأذكرها هنا لأسلط الضوء على المقارنة بين تلصص أولئك الذين يعتبرون أنفسهم مدافعين عن ضحايا جرائم الشرف، والنساء أنفسهن. وكيل الوزارة، مثله مثل الصحفيين وصناع الأفلام الوثائقية، يرى بأن لديه الحق في معرفة قصة الضحية وتفاصيلها، وأن سماعه للقصة مباشرة يخول له سلطة التحدث بالنيابة عن المرأة وعن الجريمة نفسها.

ثمة شئ آخر يحدث في هذه الصفقة. المرأة – في هذه الحالة مختار – يتم تقليل قيمتها تدريجياً إلى مجرد قصة، ويتم اعتبارهما بديلين عن بعضهما البعض. ومع آليات الدفاع عنها والمناصرة السياسية والصحفية التي تحيط بها، يتعين على المرأة أن تروي قصتها مراراً وتكراراً بكثير من التفاصيل التي تدمى القلب قدر الإمكان. كما يتعين عليها في هذه الحالة أن تكون الصوت الأصيل للبؤس (ويفضل أن يكون أجنبياً بشكل واضح).وضمن هذه الأسس التي تضمن لها الخلاص، تكون المرأة دائماً هي الضحية ولا تأخذ أبداً دور المحلل أو الخبير في القضية التي تخصها.وبدورها، لا يمكنها تسليط الضوء على الفوارق الدقيقة أو تتجاوز التصنيف المبسط لمجتمعها “الوحشي”. وبهذه الطريقة تصبح قصتها وقوداً لصناعة معقدة للدفاع عن المرأة أكبر منها بكثير، وتملي عليها اللهجة والفحوى التي تروى بها قصتها والأغراض التي يتم توظيفها فيها.

نهاية قصة مختار جديرة بالذكر كذلك. صحيح أن الاهتمام العالمي بقضيتها منحها، كشخص، فرصاً أكبر للحصول على التمويل، وبالتالي قدراً من التحكم في حياتها أكبر مما هو متاح لغيرها من ضحايا جرائم الشرف. ولكن فيما يتعلق بمسألة العدالة، لم تنجح تلك الآليات العالمية التي تدور حول “التشهير والفضيحة” في نهاية المطاف. في عام 2011، أيدت المحكمة العليا الباكستانية حكم البراءة على الرجال الخمسة المتهمين بالاغتصاب في قضية مختار. ومع ذلك، فإن الموضوع الأخير في مدونة صحيفة “نيويورك تايمز”حول مختار، ليس هو المقال الذي يسرد تفاصيل قرار المحكمة العليا،ولكنه مقال لاحق بتاريخ 12 يناير 2014 بعنوان”ضحية تنتصر”، وهو موضوع ليس له صلة بمختار على الإطلاق، ولكنه استعراض نقدي لأوبرا بعنوان “بصمة الإبهام” مبنية على قصة مختار. في المقال، يشكو الناقد من خواء شخصيتها بالقول: “ما تزال السيدة مختار مثلها مثل أي ضحية أخرى من دون فردية تجعلنا نهتم بشجاعتها”. هذه الرؤية تلخص، عن دون قصد، المشكلة الأكبر التي تتضح هنا: معالجة الضحية على إنها سلعة، والاستيلاء على قصتها، ومحو واقعها، كلها أمور متضمنة في هذه التركيبة رغم أن هدفها المعلن هو تقديم المساعدة والتكريم.

في النهاية، اختارت مختار العودة إلى باكستان والبقاء هناك حيث قامت ببناء مدرسة للبنات ومأوى، ولاحقاً تزوجت من أحد أفراد الشرطة الذين كانوا يحرسونها.

العلامة التجارية الأخلاقية

من الممكن ألا يكون الغرض من سرد القصص التي تتعلق بجرائم الشرف خياراً بين المساعدة على إنهاء جرائم الشرف، أو اجتذاب رواة القصص بدافع تشجيعهم على وضع حد للرعب. ومع ذلك، ففي الواقع، إن التفاوت الهائل بين أولئك الذين يعيشون القصص وهؤلاء الذي يحكونها فرضت أن تسيطر أجندة ناقل القصة، والعلامات التجارية الأخلاقية بصفتهم رواة القصص الشجعان، على مجريات المعادلة.

أحد أحدث الأمثلة حول ذلك الموضوع نجدها في كتاب رود نوردلاند، الصحفي في نيويورك تايمز، الذي صدر مؤخراً بعنوان “العاشقان: روميو وجولييت أفغانستان، القصة الحقيقية حول تحديهما لعائلتيهما وهروبهما من الموت دفاعاً عن الشرف”. كما يبين العنوان الطويل للكتاب، فإنه يدور حول قصة زكية وعلي، وهما زوجان من عرقين مختلفين تحديا عائلاتيهما وهربا معاً ليتزوجا. نوردلاند، الذي التقى زكية في أحد الملاجئ، كان سريعاً في تتبع قصتها هو ومصور التايمز. كانت القصة الأولى التي نشرت في التايمز واحدة من أنجح القصص ولكنه تطلع للمزيد، فتتبع القصة على الرغم من أن الصور التي صاحبت مقال التايمز، وباعتراف نوردلاند شخصياً، انتشرت في التلفزيون الأفغاني وجعلت من الصعب على الزوجين الاختباء. مرة أخرى، تحدد شعبية القصة وعاطفة قراء التايمز الطريق الذي يسلكه الكاتب. ويقول نوردلاند: “الغضب العاطفي لقراء التايمز أقنعني أننا بحاجة لمعرفة تطورات القصة، وتصعيدها إلى درجة أبعد من مجرد نشرها في الصحيفة. اتفق المحررون وشعروا أنه بما أن الحبيبين معاً، فإن الحصول على صورهما أمر ضروري للحفاظ على مستوى الاهتمام المرتفع”.

وهكذا، تتبع الصحفي قصة الزوجين حتى وصل إلى مكان أنور، والد علي، والذي لا يعارض زواج زكية وعلي، ومن ثم جعل أحد أفراد الفريق يتصل به بإصرار كل يوم للحصول على الأخبار.أخيراً رضخ الأب، الذي لم يكن لديه المال الكافي للذهاب إلى البلدة النائية حيث يختبئ علي وزكية. وهكذا، في مقابل توصيله إلى هناك، وافق الأب على اصطحاب فريق التايمز معه. كان لدى نوردلاند “شكوك عميقة وشعور متزايد بالذنب”، ولكن طموحه ساعده في التغلب على ذلك الشعور. عندما وصلوا إلى المنزل حيث يختبئ الزوجان، رفضت زكية “حتى الخروج والتحدث إلينا” وبقيت في ركن النساء، ولكن ذلك لم يكن كافياً لصد فريق التايمز. المصور، الذي يتحدث الإنجليزية بدرجة معقولة، زعم إنه “لم يكن يدرك أنه غير مسموح للرجال بالدخول إلى ركن النساء”، فاقتحم المكان والتقط صوراً لزكية. وكما يقول نوردلاند عن المصور: “اختار ألا يفهم إذا كان ذلك يعيق حصوله على صورة ما”. وفي نهاية المطاف، حصلت التايمز على ما تريد، ولكن تعرض مكان اختباء الزوجين للخطر مع الوصول المفاجئ لفريق من الصحفيين الأجانب. وللتعويض عن ما حدث، قاموا بإيصال زكية وعلي إلى خارج المدينة، وأعطى نوردلاند “ألف دولار لعلي دون أن يلاحظ أحد.”

وكما في حالة مختار، قرر كل من زكية وعلي البقاء في أفغانستان، بعد أن رفضا عرض نوردلاند ليرتب لهما الانتقال إلى رواندا بعدما رفضت الولايات المتحدة استقبالهما.

تكشف قصة زكية وعلي كيف يمكن أن تخلق “السمعة السيئة” في العالم الغربي اقتصاداً من “التلذذ عن طريق التلصص”، حيث تم دفع مبلغ من المال لزكية وعلي سواء عن طريق نوردلاند بشكل مباشر أو غير مباشر، مقابل تعرية حياتهما وجعل الثنائي الأخلاقي الذي يرسم بقائهما في بلدهما أمراً غير وارد، مع اعتبار الصحفي الغربي (ومعه أو معها، القراء) “الأمل الأفضل بالنسبة لهما من أجل البقاء على قيد الحياة”. وبالطبع سيكون الكاتب هو المستفيد الأكبر في هذه المعادلة، سواء من جهة الإشادة الأخلاقية به لفضحه “القلب المظلم” للمجتمع الأفغاني، أو بصفته منقذ الزوجين.

لا تهب للنجدة

جرائم الشرف والناجين منها ليسوا من ضمن برامج تلفزيون الواقع، فرعبهم حقيقي، وإذلالهم لكرامة الإنسان أمر جاد ويتطلب رداً فورياً. ومناقشة تحول هدف أنشطة الدفاع الدولية وسرد قصص جرائم الشرف، من وضع حد لهذه الجرائم إلى مدح وتمجيد من يحكون تلك القصص ، أمر ضروري لتحقيق الهدف من إنهاء جرائم الشرف. يجب أن يشمل هذا النقاش بالضرورة فضح وتهميش أولئك الذين يبنون حياتهم المهنية على استغلال الضحايا واستخدام الثنائيات الأخلاقية الصارخة الكامنة في جريمة الشرف كوسيلة لتسويق أنفسهم.

الرغبة في مراجعة الطريقة التي تروى بها قصص جرائم الشرف والحساسية نحو أخلاقيات سرد القصص ومنح الأولوية لحقوق الناجين بدلاً من طموح الراوي أو اهتمام القارئ يمكن أن تضمن ألا يتعرض الشخص الذي نجا من أسوأ أنواع الخيانات من المجتمع أو العائلة لشكل آخر من أشكال العدوان والإضعاف، وإن كان بطريقة أكثر دهاءً.

أخيراً، فإن إعادة إحياء هدف إنهاء جرائم الشرف يتطلب تخلياً صريحاً وواضحاً لفكرة الإنقاذ عن طريق السرد، والتي يتم فيها تصوير أن الحل لجرائم الشرف يتمثل في انتزاع الضحايا من بلدانهم وثقافاتهم. وفي حين أن ذلك قد يكون ضرورياً في بعض الحالات، إلا إنه من المهم أن تكون المجتمعات التي تحدث فيها جرائم الشرف مسؤولة عن الرعاية المستمرة لأولئك الذين اختاروا تحدي الأعراف المجتمعية. ويتطلب ذلك إعادة تقويم أنشطة الدفاع وسرد القصص بعيداً عن توصيفات مثل: “في أفغانستان، الانتقام طبق ساخن على الدوام”، أو “الرجال الأفغان يمكن أن يكونوا في صعوبتهم ووحشيتهم مثل الطبيعة الصخرية لبلدهم”، أو “قصة اغتصاب في البنجاب تكشف عن مجمتع وحشي” (الاقتباسان الأول والثاني من كتاب نوردلاند، والثالث عنوان مقال في صحيفة نيويورك تايمز عن مختار)، ونحو استكشاف إجراءت مجتمعية يمكنها المساهمة في إحداث تحولات أخلاقية.

وبما أن جرائم الشرف تختلف عن الجرائم الأخرى باعتبارها “جرائم مجتمعية”، يجب إدخال هذا الجانب ضمن أي حل مقترح. وعلى الرغم من أهمية إقرار تدابير تشريعية ضد جرائم الشرف، إلا إنه لا يمكن الاكتفاء بذلك أو اعتباره بديلاً عن أنشطة توعوية تستهدف القاعدة الشعبية للمجتمع. في سياقات عدة، بما في ذلك باكستان، ومصر، وتركيا، هناك قوانين ضد جرائم الشرف. ليس مجرد عدم تنفيذ القوانين الذي يجعلها بلا معنى ولكن أيضا الاعتقاد السائد بأن هذه القوانين عبارة عن تنازلات من الحكومات المركزية الفاسدة لأهواء ومطالب الغرب. وعلى الرغم من بغضة هذه الانطباعات، إلا إنه يجب أخذها في الاعتبار لأنها ساهمت في النظر إلى جرائم الشرف على إنها تصرفات أصيلة تساهم في استعادة السيادة الأخلاقية من تعديات الغرب، وسيسمح تجاهل ذلك باستمرارتلك المعتقدات، وبالتالي ارتفاع معدلات جرائم الشرف.

يجب أن تتحرر رواية القصص الصحفية الخاصة بجرائم الشرف من الافتراض بأنها “جيدة في حد ذاتها”، وأن تتوجه على نحو أعمق وضمن سياق قصصي يساهم في الكشف عن كيفية وأسباب وقوع هذه الجرائم. يبقى اللغزالأساسي في جرائم الشرف هو تحول الأحباء إلى قتلة. حل خيوط قصة هذا التحول يعني الذهاب إلى أبعد من مجرد ربطها بالأعراف أو الثقافة القبلية، إلى التعرف على التكوين الهندسي لعملية اعتبار أن الشرف والحفاظ عليه أمر حاسم للبقاء على قيد الحياة في مجتمع ما. إنه هذا النوع من الصحافة الذي يمكنه أن يحول المتفرجين الصامتين إلى عوامل للتغيير.

وبالإضافة إلى ذلك، يمكن للقصص التي تركز على آليات التعامل مع جرائم الشرف على وجه التحديد أن تناقش تطوير أدوات مجتمعية في سياقات أخرى. ومن الأمثلة التي يمكن الاستقصاء عنها بشكل أكبر لجان الحماية النسائية المكوّنة من نساء فقط والتي تم اقتراحها ضمن قانون حماية المرأة من العنف في باكستان. وفي حين لا تزال هذه اللجان قيد التنفيذ، إلا أنها تمثل محاولة يتم فيها تمكين النساء من المجتمعات ذاتها للتدخل في الحالات التي تكون فيها النساء في خطر.

ما لا يثير الدهشة صعوبة كتابة تقارير عميقة مثل هذه. ولكن يجب التخلص من النموذج الحالي والذي ينقض فيه الصحفيون الذين لا يتحدثون اللغات المحلية ولديهم معرفة قليلة بسياق القضية على قصص جرائم الشرف. فبدلاً من هذه التقارير ومعالجة القصص باستخدام الأنماط التقليدية، يجب معالجتها بتفاصيلها الخاصة والفريدة. قد يتطلب ذلك جهداً أكبر، ولكننا أمام مشكلة كبيرة تطلب هذا التغيير بشكل ضروري وسريع. يجب على الصحفيين الذين يعملون على قصص جرائم الشرف أن يسألوا أنفسهم إذا كانت تقاريرهم لا تقدم مجرد الأبيض والأسود، وإنما تقدم الرمادي أيضاً، ولا تكشف عن الضحايا والأشرارفقط، ولكن أيضًا الأبطال المحليين المحتملين. عندما يتم الاهتمام بهذه الجوانب، يمكن وضع القصص في سياق جيد لإحداث تغيير ذي معنى.

قوة القصة هائلة، فالنشاط الخاص بي في مجال انهاء جرائم الشرف بدأ مع قراءة تلك القصة الأولى منذ سنوات عديدة في باكستان. ما يدفعنا لإعادة النظر في قصص جرائم الشرف هو إدراكنا لقوتها الهائلة، وقدرتها على خلق انعكاسات حول من نحن ومن هم الآخرون، وما يمكن أن يكون كل فرد فينا. طريقة السرد الحالية تدور حول الحكم على الثقافات والمجتمعات التي يحدث فيها هذا العنف ضمن منطق “الفضيحة والعار” وتقوم على افتراض أن التوبيخ يقارب العدالة السردية. أنا أفهم هذا الزخم، كما أفهم كذلك التركيز على اللوم بدلاً من التغيير، وعلى مبدأ المنقذ بدلاً من الحرية.

تغيير العملية السردية يتطلب إعطاء الأولوية لسلامة وخصوصية الناجين وفهم تعقيدات علاقاتهم بمجتمعاتهم. وضمن هذا الإطار الجديد، فإن الناجين من جرائم الشرف لن يكونوا الموضوع المثير بالنسبة للقارئ الغربي، ولن يتم التقليل من شأنهم لتأكيد التفوق الأخلاقي الغربي. إن نشر قصتها (أو قصته) لن يكون الأداة الأولى والوحيدة، وإنما واحد من عدة أدوات يتم اللجوء إليها ليس بناءً على اقتصاد أخلاقي من استراق النظر ولكن لتعزيز فهم قضية شائكة، تساعد في أن تجعل الجريمة نفسها عاراً. إن الرواية التي تركز على الناجين في تلك الحالة لن تكون عبارة عن ذلك المزج الاختزالي والوصفي للخير ضد الشر، مع تتويج الشخص الذي يحكي القصة بصفته المخلص، وإنما ستوجه إلى ما ينبغي أن يكون الهدف على الدوام، ألا وهو وضع حد لجرائم الشرف.

=================================

*رفيعه زكريا كاتبة عمود في صحيفة “دون” (Dawn)، أكبر الصحف الباكستانية، وهي سياسية، ومحامية، ومؤلفة كتاب “زوجة الطابق العلوي: التاريخ الحميم لباكستان” (بيكون بريس، 2015)

المقال الأصلي باللغة الإنجليزية