زياد الدريس
زياد الدريس
كاتب سعودي؛ كان سفيراً لبلاده في منظمة اليونسكو

الغرب أكثر سعادةً منّا ونحن أقل تعاسةً منهم!

الأربعاء ١٠ ديسمبر ٢٠١٤

يتضمن «تقرير المعرفة العربي» لعام ٢٠١٤ (الذي تم إطلاقه في دبي أول من أمس الاثنين من خلال برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتضامن مع مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم)، يتضمن جملة من المؤشرات الدلالية التي استخدمها صانعو التقرير من أجل قياس أوضاع الحالة المعرفية في المجتمعات العربية، ومدى اقترابها من تحقيق مجتمع المعرفة المنشود. الجهد الكبير والمشكور الذي بذله واضعو التقرير لم يحمهم من جدل كبير ونقاش صريح أثاره المناقشون والحضور، لمؤتمر المعرفة الأول، حول صدقية وحيادية المؤشرات التي تم جلبها أو جلب معظمها من بيوت خبرة غربية وضعت مؤشرات المعرفة عندها باتّساق مع أوضاع وطبائع المجتمع الغربي، الذي لا يتطابق بالضرورة في حيثياته السوسيولوجية مع المجتمع العربي. سأشير إلى ثلاثة حقول أساسية قد تربك المؤشرات «المستوردة» المستخدمة في القياس والتحليل: ١- تأثير الدين وتبعياته في العالم العربي تختلف تماماً عنها لدى الغرب. وهذه مسألة جليّة لا تحتاج إلى كثير تفصيل. ٢- حلقات الترابط الاجتماعي، والعلاقة بين أفراد الأسرة الواحدة ثم العائلة الكبيرة في المجتمعات العربية ليست مشابهة للحالة الغربية. ٣- التفاوت في نوعية التركيبة السكانية، ففي حين يشكو الغرب من ترهل المجتمع وشيخوخته، ينطوي العالم العربي على أكثر مجتمعات العالم شباباً، حيث يقع نصف سكان العالم العربي في الشريحة العمرية تحت ٢٥ سنة. وعليه تناولت في حديثي، نموذج: «مؤشر…

نهاية مقولة: لا تقدّر بثمن

الأربعاء ٠٣ ديسمبر ٢٠١٤

في ما مضى كان الناس لا يجدون ما يعبّرون به عن إعجابهم بأحد أو بشيء أكثر من قولهم: إنّ هذا «لا يُقدّر بثمن». كانوا إذا استمعوا إلى صوت أدائي جميل، قالوا: هذا الفنان لا يُقدَّر بثمن. وإذا شاهدوا لوحة فنية جميلة، قالوا: هذه الريشة لا تقدّر بثمن. وإذا انبهروا بمهارات لعبية رشيقة، قالوا: هذا اللاعب لا يقدّر بثمن. الآن يمكن القول بأن عبارة (لا تقدّر بثمن) نفسها لم يعد لها أي ثمن! إذ إن كل ما سبق من صفات وامتيازات وقدرات أصبح لها ثمن. كل شيء تحوّل الآن إلى سلعة، لها تسعيرة، وتاريخ صلاحية. الشاعر، المطرب، اللاعب، الرسام. بل حتى: المقرئ والداعية، أصبح لهم ثمن... بعد أن كانت لهم قيمة في ما مضى! لا شك أننا نعيش الآن العصر الذهبي للرأسمالية، إذ لم يمر حتى في أكثر العصور الماضية بذخاً أن تحولت حتى تفاصيل الحياة اليومية إلى سلع لها ثمن، كما يجري في زمننا الآن. يفسر البعض هذه النزعة المتجذرة للرأسمالية إلى أنها صنو الرفاهية المطلقة التي ينعم بها العالم اليوم. قد يكون هذا التفسير مقبولاً لو أن تسليع الأشخاص والأشياء لم يتجاوز الكماليات والترفيهيات، لكن وقد اقتحمت الرأسمالية أماكن العبادة ودُور الثقافة، فقد بات الأمر أكثر من مجرد وجودنا في زمن الرفاهية. عندما يتحول عنصرا الدين والثقافة إلى منشط…

هل نسيت اليابان الصفعة؟!

الأربعاء ٢٦ نوفمبر ٢٠١٤

هل نسي أحد كارثة هيروشيما وناغازاكي؟! نعم، اليابانيون نسوها! أو هكذا بدا للعالم أن فرسان الساموراي قد استكانوا لصفعة الكاوبوي، إلى غير رجعة. في أثناء الحرب العالمية الثانية تلقّى العديد من الدول صفعات مؤلمة من القوى المنتصرة، لكن أبرز هؤلاء المنهزمين كانت: اليابان وألمانيا. ظلت الدول الأخرى تحتفظ بجذوة الثأر مشتعلة وتتحرش بين حين وآخر، فيما بدا أن اليابان وألمانيا قد صرفتا النظر عن تحقيق انتصارات عسكرية إلى تحقيق انتصارات صناعية جعلتهما في مصاف الدول المتقدمة... من دون عضلات! يعلّق أحدهم، متندّراً: ألم يكن من الأفضل لو أن العالم العربي اشترك فعلياً في الحرب العالمية ثم صُفع كما صُفعت اليابان وألمانيا؟! تتشابه حالة اليابان وألمانيا في النهضة الصناعية بعد الهزيمة العسكرية، لكنهما تختلفان في الذاكرة الشعبية لما جرى قبل سبعين عاماً، ففيما تبدو الذاكرة الألمانية حيّة حتى الآن وواعية لمرارة تفاصيل الأحداث، وتنبش عبر منابرها الثقافية بين حين وآخر في أسئلة تلك المرحلة والالتزامات المفروضة على ظلالها حتى اليوم، برغم استخدام عصا (العداء للسامية) ضد كل سائل متمرد، تبدو الذاكرة اليابانية وكأنها نسيت كل شيء ورضيت بكل ما هو مفروض عليها إلى اليوم، من دون محاولات للنقاش أو مجرد السؤال. هل هذا يعود لوداعة الشعب الياباني الذي كان قد خاض حروباً توسعية شرسة، منذ العصر الميجي، مع الجوار الصيني والكوري،…

يوم الوحدة الخليجية المصالحة التي أسعدت البعض وأتعست آخرين!

الأربعاء ١٩ نوفمبر ٢٠١٤

لم أتمالك نفسي، مساء الأحد الماضي، من التفاعل الوجداني مع خبر إعلان المصالحة الخليجية من الرياض، فكتبت من فوري معلقاً، في تويتر: «من شدة فرحي بعودة الأخوة الخليجية، لو كان بيدي لجعلت يوم غدٍ يوم إجازة في دول الخليج كافة، وسأسميه #يوم_الخليج (أو يوم الوحدة الخليجية). إجازة الخليج الشاملة ستشيع مشاعر سعادة واسترخاء شعوب الخليج في يوم موحد. لقيت تلك التغريدة العاطفية تفاعلاً كبيراً، طرف إيجابي تفهّم مقاصدها ومنطلقاتها العفوية، وسلبي لم ير فيها سوى الجانب المذموم من تكاثر الإجازات وتأثير ذلك على التنمية المستدامة! وعلى أي حال فكلا الموقفين جدير بالاحترام. أما غير الجدير بذلك فهم المتقلّبون الذين سرعان ما يتحولون من شتّامين إلى مدّاحين، ومن وطنيين شوفينيين إلى وحدويين نبلاء. أولئك الذين ظنوا أن ‏حب الوطن يمكن أن يكون ذريعة لهم لشتم الآخرين وذم أوطانهم. ونسوا، أو تناسوا، أن حبنا لوطننا لا يُلزمنا بكراهية أوطان الآخرين. بل إن الحب الصادق لا يقود دوماً إلا إلى مزيد من الحب، لا الكراهية. نعم، فرحت بالمصالحة الخليجية، وإن شاب فرحي قلقٌ من عدم استمراريتها، وغموضٌ من مرتكزاتها التي بُنيت عليها. لكني سأفرح بالمصالحة، حتى وإن كانت موقتة أو جزئية، لأني أنظر إلى الخطر، بل الأخطار، التي تحيط بمنطقتنا من كل جانب فلا أجد منفذاً من هذا المناخ العكر سوى المصالحة. بالطبع،…

نهاية الصراع الإسلامي الليبرالي

الأربعاء ١٢ نوفمبر ٢٠١٤

كتبت، ولأكثر من مرة، عن تحولات الخطاب «المتصارع» في العالم العربي، الذي ظل لعقودٍ مضت متجلياً دوماً في العلاقة المتوترة بين الإسلاميين والليبراليين، لكنه بات يتحول خلال السنوات القليلة الماضية ليكون صراعاً ذا صبغة مدنية أكثر منها دينية، وإن تمظهرت بعض مبارزاته أحياناً بشكلها الديني المعهود. أكثر التجليات لهذه (الخلطة) الجديدة من التصارع تمثلت في الموقف مما سُمّي «الربيع العربي». إذ لم يكن الموقف مع أو ضد الربيع مرتهناً بالتصنيف الاجتماعي القديم لصراع دِيكَيْ المجتمع... الإسلامي والليبرالي. لا أتحدث هنا عن نهاية الصراع الديني بمفهومه العقدي الشامل، حتى لا تختلط الأمور، بل عن الصراع الحزبي الملتبس بالدين. إذ ليس خفياً أن طائفة من الليبراليين قاتلت الربيع العربي الذي كانت تقاتل لأجله طائفة ليبرالية أخرى. وكذلك فعل الإسلاميون الذين قاتلوا بعضهم بعضاً دفاعاً عن الربيع العربي من طرف، أو هجوماً عليه من طرف آخر. بسببٍ من تلك التحولات الفئوية في التصارع، اختلطت الأوراق في الخطاب الثقافي العربي كما لم يكن من قبل. وأصبح المراقب للمشهد الانفعالي غير قادر على تسمية طرفيْ حلبة الصراع، كما كان يفعل من قبل. وقد بدا ذلك واضحاً بقوة في السجالات الدائرة في شبكات التواصل الاجتماعي، إذ لم يعد المتابع قادراً على فرز مواقف المغردين عن الأحداث بناء على التصنيفات الكلاسيكية التي كانت هي السائدة إلى ما…

حتى يغيروا ما بأنفسهم … لا ما بغيرهم!

الأربعاء ٠٥ نوفمبر ٢٠١٤

كلنا نتوق بشغف إلى تعديل الأوضاع «المائلة» للبيت الذي بجوارنا. كلنا نسعى جاهدين لإصلاح أحوال إخواننا وجيراننا وأقاربنا وزملائنا في العمل، بل وحتى المشاة في الشوارع نودّ لو نستوقفهم لنقول لهم عن العيب الذي رأيناه فيهم. نريد أن نصلح خدمات الحيّ الذي نسكنه ومؤسسات الدولة التي ننتمي إليها ومنظمات الكون الذي نعيش فيه. كلنا منشغلون بإصلاح هذا العالم الكبير، إلى درجة أننا منشغلون بهذا الهم عن إصلاح عالمنا الصغير.. أنفسنا! نقرأ الآية الكريمة: «إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم»، لكننا نفهمها هكذا: حتى يغيّروا ما بغيرهم! نقرأ المقالات المؤثرة ونسمع الخطب الرنانة لأولئك الذين يتطلعون إلى نهضة الأمة من كبوتها وإصلاح فسادها، لكن لا تفتش عن السلوكيات الشخصية للكاتب أو المتحدث، إذ لن تجد فيها ما يشي بأنه إنسان نهضوي/ إصلاحي حقيقي. أيها النهضوي/ الإصلاحي: كيف تريد من الأمة/ الدولة أن تقيم مبادئ العدل والمساواة وأنت لا تقيمها في بيتك وعملك، ولا تربي أبناءك عليها؟ كيف تريد من الأمة/ الدولة أن تكون صادقة معك ولا تغشك بقراراتها الملتوية ثم تبيح لنفسك أنت أن تغش من استطعت في بيع أو شراء.. وتسمي ذلك شطارة؟! كيف تريد من الأمة/ الدولة أن تعمل بجد وصدق من أجل النهوض بالبلاد فيما أنت لا تعمل بجد وصدق من أجل النهوض بالمؤسسة…

وضع الحروف على النقاط!

الأربعاء ٢٩ أكتوبر ٢٠١٤

ظلت الشعوب العربية سنيناً تنتظر الفارس الذي سيأتي على حصان أبيض، أو قلم أبيض، ليكون البطل الذي «يضع النقاط على الحروف» ... كي يحصل الناس على جملة مفيدة تفسر ما يجري حولهم. أُلبس هذا اللقب شخصيات وأشخاصاً عديدين ممن وُصفوا في المانشيتات التبشيرية العريضة بأنهم هم الذين جاؤوا لمناصبهم أو مواقعهم من أجل: وضع النقاط على الحروف، لكننا بعد مدة بسيطة من الاستبشار والأمل سنكتشف أن الحروف ما زالت عارية من النقاط ومبهمة وغير مفهومة. والآن، فإن فهم ما يجري حولنا وفينا وعلينا لم يعد محتاجاً إلى نقاط فقط بل إلى حروف جديدة، غير الحروف التي تلوثت لسنين طويلة بالوعود المكذوبة والنوايا المشبوهة. الانقلاب الحاصل في الوطن العربي الآن يوحي بأن أحداً جاءنا على غفلة ووضع الحروف على النقاط بدلاً من العكس الذي كنا ننتظره! العالم العربي يحتاج إلى تنقيط حروفه السياسية، فهو في حيرة حتى الآن لا يدري بأي لغة يكتب تاريخه السياسي وبأي صيغة يضع دستوره المدني. ويحتاج إلى تنقيط حروفه الاقتصادية والاجتماعية، فهو ما زال يبحث عن خريطة طريق تنموية طويلة المدى، تكفل له الاستقلال الوطني والارتقاء الشعبي. ويحتاج إلى تنقيط حروفه الثقافية، فهو يراوح حتى الآن بين انغلاق «الخصوصية» و تبعية «الانفتاح». تحتاج الأمة إلى عقود، وأحياناً إلى قرون من الزمن، كي تنهض. طول الوقت ليس…

لحوم العلماء «مهضومة»

الأربعاء ٢٢ أكتوبر ٢٠١٤

«الجدل الدائر حول الاكتتاب في «البنك الأهلي» السعودي، هو نقاشٌ حول مسألة فقهية بحتة / الربا، (غير المختلَف في حكمها ولكن في إنزالها على الواقعة) أخذ منحىً سياسياً وحزبياً مؤدلجاً أكثر مما هو شرعي. ولا شك أن كتابات استفزازية معينة هي الفتيل الذي أشعل هذا النقاش المتأزم. لست أعمم هذا التوجه على كل المناقشين للمسألة، ففيهم الكثير من الباحثين عن الصواب، لكن وجود هؤلاء الصادقين يكاد يُلوَّث براغبي «تويتر» وتحزيب النقاش من متطرفي الطرفين. لا أتحدث عن الحكم الشرعي بل عن طريقة الوصول إليه». كان هذا تعليقي في موقع «تويتر» على الاحتراب والتأزم الذي غشي المجتمع السعودي طوال الأيام الماضية، وما زالت أعراضه باقية، حول طرح أسهم أحد أضخم البنوك السعودية للاكتتاب الشعبي العام. فسّر البعض تعليقي هذا بأنه ميل لتوجّه أيديولوجي دون آخر، فيما رآه آخرون انحيازاً لبنكٍ دون آخر! أما تفسيري لتعليقي فهو أنه انحياز لطريقة في التعبير عن الرأي دون أخرى، ولذا فقد ختمت تعليقي ذاك بعبارة: «يجب أن ندرك أن السِّلم الأهلي أثمن من البنك الأهلي». ولم أكن أقصد سوى التأكيد على خطر انقسام المجتمع وتصنيفه وأدلجته تحت ذريعة كل نقاش، سواء كان دينياً واجتماعياً كما هو دوماً، أو سياسياً واقتصادياً كما هو حاصل الآن، أو فنياً ورياضياً كما قد يحصل لاحقاً! النقاش والتشاركية في اتخاذ…

«كبار الكُذّاب» مجادلة في سؤالَيْ: لماذا نكتب .. لماذا نكذب؟

الأربعاء ١٥ أكتوبر ٢٠١٤

أما السؤال الأول، فرغم ظاهره الفلسفي العميق وما يمكن أن ينطوي عليه في أعماقه من أبعاد معرفية، إلا أنه تحوّل بفعل الصحافة إلى سؤال تقليدي هش بسببٍ من سوء استخدامه من لدن ذوي الأسئلة، وابتذاله من لدن ذوي الأجوبة! حتى الذين لمّا ينخرطوا في عمق الكتابة أصبحوا يستجيبون بكل نرجسية لسؤال: لماذا نكتب؟! لا أحد يمكنه أن ينفي وجاهة السؤال أو الشغف للإجابة، لكن سؤالاً كهذا يحتاج للإجابة عنه مساحة كبيرة وفضفاضة من الصدق والوضوح والتجرد. هل نحن نكتب لأن «الكتابة تجري في دمنا»، كما يتكرر في كثير من الحوارات الصحافية، أو أننا «لا نستطيع التنفس من دون كتابة» أو لأننا «نريد أن نساهم في إصلاح هذا الكون»؟! أجزم بأن بعضاً أو قليلاً من الكتّاب مسكون بهذه الهواجس الطوباوية لنزعة الكتابة، لكن آخرين كُثُراً هم في الحقيقة يكتبون: حبّاً للظهور وخدمة لمصالحهم وسلّماً للوصول إلى سدة المناصب ورؤوس المجالس. ولا ضير في هذا لو كان مصحوباً بذاك، فنحن لا ننشد كتّاباً / ملائكة يحلّقون فوق رؤوس الناس ولا يهبطون، لكننا بالمثل لا نريد كتّاباً / شياطين يَحْلِقون منافع الناس بإسم خدمة الناس! هنا سنتحوّل من سؤال (لماذا نكتب؟) إلى سؤال (لماذا نكذب؟). لماذا يكذب الكاتب، ويستخدم قدرته ونفوذه في جعل الحسن سوءاً والسوء حُسناً؟ لماذا يقول ما لم يحدث ويخفي…

عشرون عاماً من العصا

الأربعاء ٠٨ أكتوبر ٢٠١٤

في هذا العام أُكمل عقدين زمنيين من العلاقة مع (العصا)... أتوكأ عليها، وأهشّ بها على سأمي حين لا يكون في يدي غيرها. رحلتي مع القصور في رجلي سبقت رحلتي مع العصا بثلاثين عاماً، ثم جاءت العصا قبل عشرين عاماً لتكمل المشهد الثلاثي! اشتهرت العصا عند العرب بمناقب كثيرة، فهي تعين الضعيف وتنقذ الملهوف وتزيد المستطيع عوناً وخيلاء. وقد كتب عنها كثيرون متغزّلين بمناقبها وهيبتها وطقوسها، ولم يكن الأمير أسامة بن منقذ وحده الذي خصص عنها مؤلفاً أسماه: (العصا)، لكنه ربما كان الكتاب الأشهر. أشياء كثيرة اعتاد العرب على وصفها بأنها «سلاح ذو حدين»، يمكن لي أيضاً إدراج العصا ضمن هذه القائمة، فهي تُشبع غرض المهابة والكبرياء عند بعض الذين يستخدمونها لأجل ذلك، لكنها يمكن أن تُستخدم أيضاً لكسر وتحطيم تلك الكبرياء! أكثر العصيّ شهرة عصا موسى عليه السلام، وأقلها شهرةً عصاي! ما زلت على رغم كل هذه السنين من العلاقة «العصيانية»، ألتقي بأناس وجهاً لوجه للمرة الأولى فيبادرونني بكل لطف بسؤالهم: (سلامات؟!)، ظناً منهم أنها عَرَضية طارئة، لأنهم لم يروها بجانبي في الصور الصحافية أو التلفزيونية (!)، وأنا للحق لا أتعمد إخفاءها خشية الاستضعاف، لكني لا أتعمد إظهارها خشية الخيلاء. والشغف بشراء العصيّ المطرزة والمزخرفة يشبه الشغف بشراء السُّبَح، يكمن الفارق بينهما في أن العصا كلما ازداد زخرفها وتزيّنت وظن…

إني أُتَّهَم

الأربعاء ٠١ أكتوبر ٢٠١٤

1 كتب الفرنسي إميل زولا في عام 1898 مقالته ذائعة الصيت: «إني أَتهِم» دفاعاً عن الضابط الفرنسي ذي الأصول اليهودية ألفريد دريفوس. وعلى نفس المنوال، ولكن في اتجاه معاكس تماماً، أكتب اليوم بأعلى صوتي: «إني أُتَّهَم»... أُتَّهَم بأني خلف كل شرور العالم ومصائبه وحوادثه وعداواته. أُتَّهم بأن تعاليمي الإسلامية هي التي تقف خلف كل تطرف، وبأن طبائعي العربية هي التي تشبه طبائع كل إرهابي، وبأن سحنتي الشرق أوسطية هي التي شوهدت في مكان التفجير! أُتَّهم بكل هذا، ولا أخلي نفسي من المسؤولية. لكني أتساءل: هل أنا المتهم الوحيد عن كل مصائب هذا العالم؟! أين المتهَمون الآخرون، الذين شاركوني في التنفيذ، بل ربما سبقوني إلى مكان التفجير فرسموا «الخريطة»، وأشعلوا «الحدود»، وباعوا السلاح، وجهزوا القاتل والمقتول، ثم جاؤوا بي لتنفيذ العملية. ستقولون (نظرية مؤامرة)، لا بأس، لكن تذكّروا أن كل «نظرية» مؤامرة قد تبين، حين كشفت الاستخبارات وثائقها بعد سنين، أنها كانت «عملية» مؤامرة. أين تجار السلاح الذين يعرفون أنه لو نجحتْ دعوات الحوار بين الأديان والثقافات والحضارات، لأعلن هؤلاء التجار إفلاسهم؟! أين القادة السياسيون الذين يعرفون أنه لو تحقق الأمن والسلام في شطرٍ من العالم لاشتعلت القلاقل والحروب في شطره الآخر، والعكس بالعكس؟ كيف يكتظ قفص الاتهام بمن يشترون السلاح، ويخلو ممن يبيعونه؟! وكيف يكتظ بمن يستخدمونه ضد أفراد، ويخلو…

ليلة سقوط صنعاء

الأربعاء ٢٤ سبتمبر ٢٠١٤

في غضون أسبوع واحد، تمنّعت إسكتلندا عن السقوط من التاج البريطاني المتين وسقطت صنعاء من التاج العربي المهلهل، لتصبح تحت رحمة الصولجان الإيراني المتمدد عن بُعد. وفي خلال الأيام التالية لهذين الحدثين كُتب الكثير من المقالات التي تناولت بشكل واضح، وفاضح أحياناً، الفروقات بين الربيع العربي والربيع الإسكتلندي، وما آل إليه الربيعان هنا وهناك من نتائج ومواقف أبانت بشكل جليّ الفروق في الثقافة المدنية بين الشعبين العربي والأوروبي. في ما بعد التجربة الإسكتلندية، وغـــيرها مـــن تــجـــارب مماثلـــة سابقــــة، أعلن كثيرون أن الشعـــوب العــربية لديها مشكلــــة في التعبير عن اختياراتها الديمقراطية، هذا صحيح لكن هذه هي نصف الحقيقة، أما النصف الآخر من الحقيـــقة الذي يُغيّـــب كثـــيراً فهـــو أن الأنظمة العربية لديها أيضـــاً مشـــكلة مع الديمقراطية. المشكلة الأولى (لدى الشعوب) سببها قلّة الممارسة، أما المشكلة الثانية (لدى الأنظمة) فسببها بالعكس هو كثرة الممارسة! ظل كثير من الشعوب الأوروبية، منذ أعقاب الحرب العالمية الثانية، يطالب دوله بالتطوير والإصلاح أو الانفصال بناء على مرتكزات عرقية أو لغوية أو اقتصادية، كما هي حال إسكتلندا وإرلندا عن بريطانيا وكتالونيا والباسك عن اسبانيا والفلامنك عن بلجيكا وجزيرة كورسيكا عن فرنسا وإقليم فينيتو ( فينيسيا ) عن إيطاليا وغيرها كثير. اتخذ بعض هذه الحركات الانفصالية طريق العنف خلال سنوات مضت، لكنه بعد سنين تخلى عنه إثر توافق معظمها…