مفكر عربي يقيم في باريس
يبدو أن المشكلة السورية سوف تلاحقني إلى القبر أو حتى ما وراء القبر. هل قرأتم كتاب شاتوبريان «مذكرات ما وراء القبر»؟ تحفة التحف. ولذلك قال فيكتور هيغو الذي جاء بعده مباشرة: «إما أن أكون شاتوبريان أو اللاشيء»! الخلاصة كنت قد قررت منذ أربع سنوات بعد أن حصل ما حصل أن لا أتدخل في الشؤون السورية إطلاقا حتى ولو بلغت الدماء الركب. ولكن أجدني الآن مضطرا للانغماس بهذه الكارثة التي عصفت بالبشر والحجر، دمار على مد النظر.. هل تستطيع أن تخرج من جلدك كليا؟ هل تستطيع أن تنسى أصلك وفصلك حتى لو كنت عاشقا للمنافي مثلي؟ مستحيل. طيلة الثلاثين سنة الماضية كنت أتوجس خيفة وأتساءل: متى سيحصل الانفجار الكبير؟ متى ستقع الواقعة؟ وها هي الواقعة قد وقعت فماذا أنتم فاعلون؟ ها هي الفاس قد وقعت في الراس يا أبناء الطوائف والعشائر والملل والنحل. دبروا حالكم. أنا خارج قوس أو خارج التاريخ حتى إشعار آخر. في الواقع على الرغم من أني هائم على وجهي منذ عقود ولم أضع قدمي في سوريا منذ خمسة وثلاثين عاما فإني ملاحق بالمسألة السورية غصبا عن أبي. كلما هربت منها لحقتني أكثر! بل وكادت أن تودي بي من حيث لا أدري.. ولذا تنفست الصعداء قليلا بعد أن انفجرت القصة الكبرى ولم تعد الأنظار متركزة علي فقط. عيب أن أقول ذلك ولكن هذه هي الحقيقة. كان ينبغي أن تنفجر سوريا كلها لكي ينسوا وجودي! الآن شغلوا بما هو أكبر وأعظم وانصرفت الأنظار عنك بشكل كلي أو جزئي. أليست هذه نعمة كبرى؟ ألم تكن محروما منها طيلة ربع قرن على الأقل؟ فاغتنمها إذن وعش قليلا في الظل حتى ولو كنت معطوبا تشعر بأثر الضربة كلما تنفست أو بلعت ريقك. ولكني تعودت على ذلك. هل في داخلي سبع أرواح كالقط؟ يبدو ذلك. هل أنتمي إلى فئة «الناجين من الموت»؟ من دون شك تماما كديستويفسكي الذي نزل عليه عفو القيصر بردا وسلاما في آخر لحظة قبل أن يرشوه بالرصاص. من يستطيع أن يتخيل تلك اللحظة: لحظة اللحظات؟ بدءا منها أصبح ديستوفسكي ديستوفسكي. ولذلك فإني أعيش اللحظة بكثافة وأستمتع بها أضعافا مضاعفة على عكس الناس العاديين. منطقيا كان ينبغي أن أكون تحت الأرض قبل أربع سنوات بالضبط. ولكن عمليا لا أزال أستمتع بالهواء والشمس، بل وأعشق وأغازل يوميا عشر مرات على الأقل! من يصدق ذلك؟ كيف ربحت أربع سنوات إضافية رغم أنف الدهر؟
لكن لندع كل هذه الاعتبارات الشخصية جانبا ولندخل في صلب الموضوع. في الواقع كنت أريد أن أتحدث لكم عن سياسي فرنسي محترم هو رئيس الوزراء السابق دومنيك دو فيليبان. فقد فاجأ الجميع مؤخرا عندما قال إنه بعد كل ما حصل في سوريا مؤخرا من دمار ومجازر فإن التعايش بين الفئات أصبح مستحيلا ولم يعد من حل إلا التقسيم. بمعنى: آخر الدواء الكي كما تقول العرب. أبغض الحلال إلى الله الطلاق كما يقول الحديث النبوي الشريف. وهكذا فجر قنبلة في الساحة الباريسية ولفت إليه الأنظار بعد طول غياب. أنا شخصيا لا أقول التقسيم وإنما الفيدرالية. أحلم بالاتحاد السوري على غرار الاتحاد السويسري، أرقى بلد في العالم. كلمة تقسيم تؤلمني نفسيا وتزعجني فكريا وإنسانيا. في دمشق وحلب وحمص وحماه وإدلب ودير الزور ودرعا وبقية الكواكب المشعة أشخاص مثلي وأفضل مني ولا أريد الانفصال عنهم بأي شكل. وليسوا أعدائي وإنما أحبائي. إني أشترك معهم في اللغة والآداب العربية والدين. نعم في الدين! ولكن مشروحا ومفسرا بطريقة عصرية عقلانية. وهو ما نحن سائرون نحوه كلما تقدم العالم العربي واستنار تدريجيا. ميزة دوفيليبان هي أنه خرج على اللغة الدبلوماسية الببغائية التي تقول كل شيء ولا تقول شيئا. لقد خرج على تلك اللغة الخشبية المتخشبة، القاتلة المملة، التي نسمعها كل يوم ونكاد نكفر بالسياسة والسياسيين بسببها. فهل سنلعنه أم سنشكره؟ نقول ذلك وخاصة أنه يرى أن التقسيم إذا ما حصل فسيكون مؤقتا حتى تكون النفوس قد هدأت والعقول قد استنارت والطائفية قد تبخرت أو كادت. أترجم بتصرف ولكن هذا هو مقصده. دعوني أتساءل: إذا كان خطاب الحقيقة والصراحة ممنوعا في الساحة العربية فهل من مخرج أو خلاص؟ أيها السادة المشكلة أكبر مما تظنون والداء مستفحل، عضال. أتوقف هنا لحظة لكي أشيد بمقالة تنويرية جريئة للأستاذ محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ في جريدة «الجزيرة» السعودية تحت عنوان: «أوقفوا هؤلاء المشايخ الدمويين». إنها مفعمة بالحقيقة والصراحة والحس العالي بالمسؤولية. والواقع أنه إذا لم نعترف بالحقيقة يوما ما، إذا لم نواجه الفكر الطائفي بشكل صريح ومسؤول، فإننا لن نصل إلى نتيجة حتى ولو بعد مائة سنة. هذه المسألة الشائكة لن تحل قبل تجديد برامج التعليم الديني في كل أنحاء العالم العربي والإسلامي. لن تحل قبل أن ينتصر الإسلام المستنير على الإسلام الظلامي. لب المشكلة يكمن هنا. أوقع وأصر: المشكلة فكرية بالدرجة الأولى قبل أن تكون سياسية. ولن تصلح السياسة قبل أن يصلح الفكر ويتغير جذريا. هذا ما علمني إياه فولتير الذي واجه شعبه بالحقيقة الجارحة عندما كان لا يزال طائفيا ظلاميا. ولولا ذلك لما تقدمت فرنسا خطوة واحدة إلى الأمام ولما استنارت وتخلصت من وباء الطائفية الذي كاد أن يقضي عليها.
المصدر: صحيفة الشرق الأوسط