خاص لـ هات بوست:
عدا عن مسلسلات رمضان، وجد “المسلمون” ما يشغلهم ويثير حفيظتهم، لم تعنيهم الأهوال التي يعيشها أهل غزة بقدر ما عنته لهم تصريحات علي جمعة مفتي مصر السابق، حتى أن طلاب الجامعة طردوه وأهالوا عليه الشتائم، وكأنه مرتد أعلن خروجه عن الإسلام.
كل ما قاله هذا الرجل هو أن الجنة تتسع للجميع، المسلم وغير المسلم، ويجوز تهنئة المسيحي بعيد الميلاد.
لا عجب، فهذا ما كرّس في العقل الجمعي وما درسته الكتب، ولم يشفع للرجل تاريخه ولا علمه بل ربما على العكس سيكون الهجوم عليه أكثر حدة من غيره.
والموضوع يعكس جوانب عدة، برأيي كلها مهمة.
فأن يكون الشباب على هذه الدرجة من الاستفزاز لمجرد سماع رأي مخالف لما اعتادوا عليه، فهذا أمر جدير بالملاحظة، حيث يفترض أن يكون الجيل الجديد على قدر من الوعي يؤهلهم لآراء أكثر رحابة، ناهيك عما يتكرر دائماً بهكذا مواقف، حيث يدافع عن الدين بشتائم لا تليق، إن وجدها الشاتم لائقة بالمشتوم فهي لا تليق بالدين المدافع عنه.
وأن نبقى على هذا الحال من عدم سماع الآخر ومقارعته بالحجة إن وجدت، بلا هيجان وانفعال، فإنه مدعاة للإحباط، إذ ما زالت ردود أفعالنا بعيدة عن التعقل.
ثم مفهوم أنك تريد الدخول إلى الجنة وتسعى لذلك، لكن لماذا تعتبر أن الطريق إليها يمر من استكثارها على غيرك؟ حتى لو كانت الجنة لك ولمن من ملتك فقط، ما شأنك أنت إن ادعى أحد غير ذلك؟ ألا يكفيك أن تدخلها؟ وباعتبارنا في شهر رمضان الفضيل فحبذا لو اطلعت على التنزيل الحكيم وقرأت آياته، أو لو توقفت وأنت “تختمه” وتدبرت قليلاً لوجدت أن الجنة بيد الله وحده، بيده القرار والمفتاح، ولا أحد غيره جل جلاله يمكنه أن يفرز الناس، وما نعرفه أن رحمته وسعت كل شيء، ولن ينقص منها رأيك.
وثمة أمر آخر وهو أن المتدين يفترض به أن يحب الخير للناس، كل الناس، والله تعالى عندما أوصاك بجارك وصاحبك لم يحدد لك ملتهم {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ۖ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ} (النساء 36)
فكيف للإحسان ألا يكون بالتهنئة بالأعياد، حتى لو كانت تواريخها غير صحيحة، فمن قال أن كل أعيادنا تواريخها صحيحة، رأس السنة الهجرية وعيد المولد، وحتى رمضان الذي نحن فيه الآن؟
لست هنا بصدد تفنيد صحة آراء الشيخ جمعة ولا الدفاع عنه، إنما علينا الاعتراف أننا بحاجة لأمثاله ممن يمتلكون الجرأة لقول الحق، على الأقل لتصحيح ما سكتوا عنه أو علموه للأجيال، فكتبنا مليئة بفتاوى أكل عليها الدهر وشرب، وتوارثتها الأجيال جيل بعد جيل وفق قاعدة أساسية لا تكسر: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ} (البقرة 170). فهم ألفوا آباءهم على نسق بعينه، وعليهم اتباعه حرفياً، وإلزام العباد باتباعه أيضاً.
على أن المشكلة الأساسية ليست في الهيجان الذي يحصل كلما عبر أحد عن رأيه ، إنما في التشويه الذي حل بالإسلام نتيجة هذا القمع، فالطغيان الديني شديد القوة، ولا يوجد طغيان على حق حتى لو كان دينياً، فالله تعالى سمح لإبليس بجداله، وإبراهيم عليه السلام لم يطمئن قلبه إلا بعد أخذ ورد مع الله تعالى، وهو سبحانه القائل {واعبد ربك حتى يأتيك اليقين}(الحجر 99) وهو من دعا في كتابه للتدبر والتفكر، إنما الخوف من رأي مغاير لما ورثناه جعل الإسلام دين مغلق، توقف فيه الفكر عند القرن العاشر الميلادي، حتى أبسط الأمور نحن نحيلها إلى فتاوى ذاك الزمان، ونقيس ظروفنا بظروف الأموات، ونأكل ونشرب ونعيش كما عاشوا، ثم إذا تفوه أحد برأي جديد ثرنا عليه وقد نحل دمه.
الإسلام في التنزيل الحكيم دين “تدبروا” و “لعلهم يتفكرون” و”لعلهم يعقلون” و”لعلهم يفقهون”، دين عقل وعلم ، ورحمة وأخلاق حسنة، و{من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}، من شاء فليصلي ومن شاء لا، {كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا}(الإسراء 84) وكل سيحاسب في الآخرة على عمله، من صام فلنفسه ومن لم يصم أيضاً، فالدين شأن فردي، من زهد وتعبد في رمضان أو من نام في النهار وتابع المسلسلات في الليل، كل إنسان حر، والله يفصل بيننا يوم القيامة.
ليت أحد “رجال الدين” كان قد أفتى بحرية الإنسان في ممارسة الشعائر، ولم ننتظر قوانين تبيح تقديم الطعام لمن يريد في نهار رمضان، لكن الحملة القائمة ضد علي جمعة تجعلنا نتفهم أوضاعهم، إنما نتمنى عليهم ألا يستمروا في تضليل الناس وتشويه الدين، بل آن أن يتجرأوا.