كاتب وصحفي سعودي
أحرص كلما أتيحت لي فرصة زيارة العاصمة الحبيبة الرياض، أن أتنقل بين شوارعها المزدحمة عبر سيارات الأجرة. تمنحني هذه الرحلات كثيراً من القصص والتجارب الملهمة. إحدى أجمل الرحلات على الإطلاق كانت من محطة سكة الحديد في الملز إلى مقر معرض الرياض الدولي للكتاب في طريق الملك عبد الله. كان بطل الرحلة السائق، عبد الرحمن الشمري (أبو يوسف). روى لي أبو يوسف في طريقنا كيفية انتقاله من مكة إلى الرياض قبل نحو 19 عاماً. يتذكّر أبو يوسف أن ابنه الأكبر تخرج في الثانوية العامة بتقدير مرتفع. حاول أن يجد له مقعداً في كلية الطب في جامعة الملك عبد العزيز بجدة فلم يفلح. قدّم ملف ابنه إلى كلية الطب في جامعة الملك سعود فظفر بقبول. انتقل الابن البكر إلى الرياض وحيداً. لكن سرعان ما شعر يوسف بحنين إلى والديه وأخيه وأخته، كاد أن يودي بمستقبله الدراسي. لم يجد الأب خياراً للمحافظة على مستقبل ابنه سوى بالانتقال إلى الرياض والتقاعد مبكراً للاهتمام بابنه ومساعدته على قضاء حوائجه؛ ليركز في دراسته. وصل أبو يوسف إلى الرياض قبل نحو عقدين من الزمن. كان يقوم بالطبخ لابنه والعناية بملابسه ومشاعره. بعد سنوات قليلة التأم شمل الأسرة من جديد لكن في الرياض. جاء الابن الثاني، مشاري، إلى العاصمة؛ لدراسة الطب برفقة والدته وشقيقته.
تخرّج لاحقاً يوسف ومشاري، الأول متخصّصاً في طب الأطفال، والثاني في الجراحة. أما شقيقتهما فهي في طريقها للحصول على شهادة البكالوريوس في طب الأسنان بعد أشهر عدة.
يقول أبو يوسف وهو يقود السيارة مبتسماً: “البعض استثمر في عالم المال والأعمال، أنا استثمرت في أبنائي”. إن كل استثمار قد يدفعنا إلى الندم إلا الاستثمار في أطفالنا.
ضحى الأب بوظيفته ومصدر رزقه وجنى أبناءً واعدين يفخر بهم.
يعتقد الكثير من الآباء أن المال الذي ينفقونه على أبنائهم هو أهم خدمة يسدونها لهم، بينما ينسون أن الوقت الذي ينفقونه معهم أغلى وأكثر جدوى.
لولا الوقت الذي صرفه أبو يوسف على أبنائه والتضحيات التي بذلها في سبيلهم لما شاهدهم اليوم أطباء سامقين تتجاوز طموحاتهم أطول المباني ارتفاعاً.
علمني أبو يوسف أن وراء الكثير من سائقي الأجرة قصصاً عظيمة حفرت أخاديد على وجوههم وأطرافهم. كل تجعيدة في أجسادهم دفعوا ثمنها باهظاً من أجل أبناء لا يكتوون بلهيب الحياة، وحرارة الشمس التي عاشوا تحتها طويلاً.
المصدر: الاقتصادية