يؤمن جزء مهم من النخبة السياسية الروسية بأن عام 2014 سيدخل التاريخ كونه عام التحولات الكبرى في السياسات الخارجية والداخلية لموسكو. تحولات لن تكون بلا ثمن باهظ يبدو الكرملين مستعداً لدفعه ولو كلفه مواجهة مع الغرب أكثر تعقيداً من الحرب الباردة وعلى مساحة جيوسياسية أوسع وبأدوات مختلفة كلياً.
في بداية العام 2014، ارتبط العنوان الأساس المطروح بأدوات رد روسيا على التطورات في اوكرانيا التي لم توافق اهواء موسكو بعد تقدم الفريق الموالي للغرب، واطاحة الرئيس فيكتور يانوكوفيتش بسبب تحفظه على توقيع بروتوكول توسيع الشراكة الأوكرانية – الأوروبية.
وبدا لفترة قصيرة ان روسيا فقدت القدرة على التأثير في اقرب جاراتها وبوابتها الرئيسة الى اوروبا. لكن التطورات تسارعت بعد ذلك من استفتاء «استقلال» شبه جزيرة القرم الاوكرانية في آذار (مارس)، ثم الخطاب الناري للرئيس فلاديمير بوتين في الشهر ذاته الذي اقرّ ضم شبه الجزيرة وأطلق شعار «فدرلة» اوكرانيا، قبل بدء احتجاجات في شرق البلاد تحولت الى مواجهة عسكرية طاحنة.
هذه التطورات اعادت عنصر المبادرة الى موسكو التي اكدت تمسكها بوضعها كلاعب اساس وتصميمها على الدفاع عن مصالحها في منطقة تعتبرها فضاءها الجيوسياسي الأهم، حتى لو كلفها ذلك الدخول في مواجهة مع الغرب تعتبر الأصعب والأكثر تعقيداً منذ سنوات.
قبل شهور قليلة من اندلاع أزمة اوكرانيا، نصح خبراء مقربون من مركز القرار في روسيا بعدم الالتفات كثيراً الى التطورات على الحدود الغربية المتمثلة في محاولات توسيع الاتحاد الأوروبي، أو زيادة نفوذه في مناطق محاذية للحدود مع روسيا، في مقابل زيادة التوجه الى الشرق باعتباره مركز الحدث الرئيس في القرن الواحد والعشرين. لكن هذه التوجهات غابت عن المشهد حين دقت اجراس الخطر في اوكرانيا، خصوصاً بعدما بات واضحاً ان خسارة هذا البلد ستعني انهيار مشروع «الاتحاد الاوراسي» الذي عمل عليه طويلاً فريق الرئيس فلاديمير بوتين، كي يشكل الهيكل البديل لرابطة الدول المستقلة المتعــثرة في علاقاتها، والتي تحولت بعد مرور عقدين على انهيار الدولة السوفياتية محــفلاً بروتوكولياً يجتمع قادته مرة سنوياً من دون ان تربطهم سياسات مشتركة واضحة.
هكذا يبرر الخبراء اسباب «انخراط روسيا» القوي في أزمة اوكرانيا وتداعياتها. ويرى بعضهم ان تحليل المواجهة مع الغرب التي انطلقت في 2014 يشير الى انها ستكون طويلة جداً وعميقة، وهي «لن تكون نسخة جديدة عن الحرب الباردة بل نسخة اكثر تعقيداً لأن مساحتها الجيوسياسية أوسع وأدواتها الأيديولوجية مختلفة كلياً» – وفق رئيس مجلس السياسة الخارجية والدفاع التابع للكرملين فيودور ليوكيانوف الذي يتوقع ان تشتد المواجهة تعقيداً بدلاً من السير نحو انفراج، وتستند الى حرب المعلومات والصراع الاقتصادي مع احتمالات اقل لتدخلات عسكرية تبقى مطروحة في بعض الحالات.
وفي ظل الأحداث الساخنة في اوكرانيا وحولها، تطور الخطاب السياسي الروسي بدءاً من «حديث القرم» وفق التسمية التي أُطلقت على خطاب بوتين في آذار الذي تمسك بـ «الدفاع عن الروس في كل اماكن وجودهم»، في اشارة لا سابق لها الى استعداد روسيا للتدخل في اكثر من منطقة اذا شعرت بخطر يهدد مواطنيها، وهو ما انتقدته الولايات المتحدة بشدة. كما اطلق بوتين فكرة «التعددية القطبية، وضرورة كسر احتكار واشنطن القرار العالمي، باعتبار ان العالم يعاني بقوة من تبعات الأحادية القطبية التي جلبت ويلات للشعوب».
واستكمل الكرملين لاحقاً بلورة خطابه السياسي كما ظهر في كلمة بوتين امام مؤتمر «فالداي» للخبراء في تشرين الأول (اكتوبر)، حين فنّد تأثيرات «الريادة العالمية لواشنطن في عالم أُصيب بخلل في موازين القوى»، واعتبر ان «سياسة الإملاء وفرض قوالب معينة يؤديان إلى نتيجة عكسية، أي إلى تصعيد بدلاً من تسوية النزاعات، وانتشار الفوضى بدلاً من انشاء دول قوية ذات سيادة، ودعم قوى تحوم حولها شبهات منها مجموعات النازيين الجدد والمتطرفين الاسلاميين».
وفيما استخدم الخطاب الروسي لهجة حادة تجاه واشنطن، فإنه حافظ على أبواب نصف مغلوقة مع الأوروبيين عبر اعلان بوتين في خطابه السنوي ان روسيا «لا تنتهج سياسات عدوانية» ضدهم، و «مستعدة لعقد تسويات تحفظ مصالح كل الاطراف».
ويرى خبراء روس ان اللهجة الحازمة للرئيس الروسي عكست إصراراً على مواصلة المواجهة حتى نيل اعتراف غربي بمصالح روسيا في مناطق تعتبرها حيوية لنفوذها.
ويعتبر سيرغي كاراغانوف، ابرز الخبراء في نادي «فالداي»، أن روسيا لا تستطيع قبول المحاولات الغربية المستمرة لتقليص مساحات حضورها السياسي والاقتصادي، ومحاولة محاصرتها عسكرياً، في مقابل زيادة مساحة الحضور السياسي والاقتصادي الأوروبي عبر توسيع الاتحاد الأوروبي، وتعزيز النفوذ العسكري للحلف الأطلسي (ناتو) عبر ضمه اعضاءً جدداً في الفضاء السوفياتي السابق، وكذلك تخطيط واشنطن لنشر الدرع الصاروخية وتطويق روسيا عسكرياً.
بهذا المعنى تكون المواجهة في اوكرانيا مفتاح الانفجار الذي اطلق دفعة واحدة كل الملفات الخلافية المتراكمة منذ سنوات في علاقات روسيا مع الغرب. ويقول كاراغانوف إن المسار المتشدد لروسيا ولهجتها الحازمة في الفترة الأخيرة «طريق الزامي» لسياستها في الظروف الدولية الجديدة، و «المهم في الأمر ان روسيا ستنفتح على «آفاق واسعة جداً اذا ستطاعت تجاوز الأزمة الحالية بأقل الخسائر، وربما الخروج منتصرة منها».
لكن، هل تملك روسيا قدرة مواجهة تحديات تعد الأخطر على الصعيدين السياسي والاقتصادي في ظروف معقدة؟
يرى خبراء بارزون ان ثمة «ايجابيات لا يمكن تجاهلها» للمواجهة الحالية على رغم كل الصعوبات والأثمان التي قد تدفعها روسيا، خصوصاً في الداخل على صعيد تدني الأحوال المعيشية وزيادة معدلات الفقر، وتذمر جزء من النخب المقربة من الكرملين.
بين ابرز الايجابيات، شروع النخب السياسية والاقتصادية في التفكير جدياً بآليات اصلاح البنى الصناعية والاقتصادية وتأهيلها، وإنشاء اقتصاد وطني متنوع لا يعتمد بنسبة تتجاوز 70 في المئة على صادرات الطاقة.
لقد اصابت العقوبات الغربية قطاعات حيوية في روسيا بشلل كامل، وأدخلت الاقتصاد في حال جمود، كما أفقد تراجع اسعار النفط الخزينة الروسية نحو ثلث عائداتها، وخلق مضاربات وذعراً في الأسواق بسبب انهيار الروبل. وحتم ذلك تقديم فريق بوتين مهمة ترميم الاقتصاد على باقي المهمات الملحّة داخلياً، وتحوله الى «هدف ضروري لتعزيز قدرة روسيا على المواجهة»، كما يقول كاراغانوف الذي حذر من ان «فشل تحقيق هذا الهدف سيجعل الديبلوماسية القوية لروسيا غير مفيدة، وسيؤدي الى تأخرها عن ركب التطورات المحيطة بها وصولاً الى جعلها من بلدان العالم الثالث التي تملك سلاحاً خارقاً ولكنها ضعيفة جداً، ما قد يؤدي في النهاية الى انهيار صعب ومؤلم».
ولا يقل اهمية عن هذا الهدف توجه روسيا الى تعزيز تحالفاتها الاقليمية والدولية في مواجهة محاولات عزلها. وهي نجحت في توسيع حضور مجموعة «بريكس» التي يؤيد اعضاؤها، على رغم اختلاف تأثيراتهم، دعوة موسكو الى كسر احتكار واشنطن القرار العالمي، وتعدد الاقطاب، وتقليص «عسكرة العلاقات الدولية» عبر تجنب تسوية المشكلات الاقليمية من خلال التدخل العسكري او محاولات اطاحة الأنظمة.
كذلك، بدأت موسكو تحركاً نشطاً لتوسيع سياستها الشرقية عبر توثيق العلاقات مع الصين ودول في آسيا والمحيط الهندي وصولاً الى تركيا التي اختارها بوتين، على رغم الخلافات السياسية معها حول الوضع الاقليمي، خصوصاً في سورية، بديلاً لإنشاء أنبوب غاز «ساوثبري» مع اوروبا.
وعلى رغم ان اعلان تطبيع العلاقات الأميركية – الكوبية اربك بعض خططها لتعزيز حضوره في اميركا اللاتينية، إلا ان موسكو ما زالت تعتقد أنها قادرة على توسيع التعاون مع عدد من بلدان المنطقة.
المصدر: موسكو – رائد جبر – الحياة