كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
اضطررت مرة لاستخدام اسم مستعار في عملي الصحفي، فكان أول ما خطر ببالي اسم «أحمد صلاح الدين»، ما جعل زميلاً لي يعتقد أنني اخترت هذا الاسم تحديداً، لأن والدي أحمد، وابني صلاح الدين، ولكن الحقيقة أنني كنت أفكر في أستاذي محمد صلاح الدين .
أكثر ما كان يعجبني فيه هو أنه صحفي «ملتزم»، والمقصود بذلك أنه كان صاحب رأي وموقف، ظل مؤثراً وواضحاً في مسيرته الصحفية حتى خطفه الموت قبل أكثر من عام، حاولت ـ ولا أزال ـ أن أكون ذلك الصحفي الملتزم، مع الاحتفاظ بالموضوعية، وقبول الرأي الآخر، وعدم التعصب .
كان هذا قليلاً ممّا تعلمته من محمد صلاح الدين، وهو لمن لا يعرفه صحفي سعودي من جيل الرواد الذين احترفوا الصحافة وعملوا في مختلف المواقع فاكتسبوا الخبرة والحرفية معاً، وهذا أمر آخر تعلمته منه؛ أن الصحافة تستحق أن تتفرغ لها وتصبح كل حياتك .
ولكني تعلمت منه أموراً أخرى، بعضها شخصي، أهمها التواضع، كان رحمه الله مستعداً لأن يقبل دعوة من أي أحد، ولا يرد من يطلب منه موعداً، خاصة الشباب، فما أكثرَ دعواتنا له ونحن شباب لكي نستشيره أو نستأنس برأيه، ربما عززت خلفيته الدعوية تلك النزعة لديه، كنت أراه يتهلل بالحديث مع الشباب .
لم يكن يهمل أي مكالمة تصله، إن لم أجده في مكتبه كنت أترك له رسالة مع سكرتيره واثقاً بأنه سيرد على اتصالي، فلا أهتم بالمتابعة، وكان يفعل دوماً، أعرف كثيرين تجري خلفهم كي يردوا عليك اتصالاً في شأن يخدمهم وكأنك صاحب الطلب والمصلحة، متعذرين أنهم مشغولون .
حاولت أن أتعلم منه «تنظيم الوقت»، كان يحمل في جيبه بطاقات، يسجل فيها مواعيده وجدوله بخطه الأنيق الدقيق، يضعها أمامه على مكتبه فور جلوسه، ثم يشرع في تنفيذها واحدة واحدة، ويضيف عليها و«يشخط» على ما تم إنجازه أو يشرح معلومة بجوارها، وإذا ما امتلأت البطاقة، يضعها في صندوق صغير بدرج مكتبه، كأنها أرشيف حياته وقد كانت حياة غنية بالفعل، فلم يكن رغم مشاغله العديدة يغيب عن التزاماته الاجتماعية، خاصة عيادة المرضى والعزاء، حتى وإن تعددت في ليلة واحدة، كان مواظباً على مجالس أصدقائه من أدباء وصحفيين، فكان يستمع أكثر مما يتكلم «فشلت في تعلم هذا منه»، اشتهر بأنه يختفي فجأة، لا يشغل من حوله بوداع وسلام، يهمس في أذن من بجواره مستأذناً ثم ينسحب بهدوء، بعد برهة يقول أحدهم: «يا هوه.. أين أبو عمرو؟» يجيب من كان بجواره: «يوه.. دا مشي من بدري»، يضحك محبوه ليقول أحدهم: «رجل ملائكي.. كالريح الطيبة تأتي بهدوء وتغيب كذلك بهدوء».
كان ملائكياً، يكره الغيبة، إن جرت «لغوصة» سيرة فلان في مجلس يسكت، إن زادت «اللغوصة» عن حدها ولو كانت مزاحاً، كان يختفي كعادته. تجرّأت مرة واختلفت معه في رأي حول قضية مبدئية عنده، كتبت أدعو إلى الحوار مع الإسرائيليين على مستوى المثقفين والباحثين، كان ذلك في زمن إطلاق مبادرة الملك عبدالله للسلام، رد بموقفه المبدئي مفنداً دعوتي، فكتبت أن رأيه أفكارٌ قديمة تجبُّها أفكار حديثة إيجابية تجب تجريبها، التقيته بعدها وناقشته، فلم يغضب، أسعده أنني وإن كنت ابناً له إلا أنني أناقشه وأدافع بقوة عن رأيي، بعدها التقيته مراراً فكان دوماً يتمنى لي التوفيق، لا أنسى أيضاً اتصاله بي يوم تركت صحيفة «الوطن» كرئيس لتحريرها، كان ـ رحمه الله ـ فخوراً بي.
نسيت أن أقول إنني عملت معه في مقتبل حياتي الصحفية، كانت بمثابة «كورس مكثف» في الأدب والسلوك وأخلاقيات العمل، ولكن يستحيل أن أقارن نفسي به، وإن كنت أحاول أن أقلّده لعلي أحظى بمحبة الناس مثله.
المصدر: مجلة روتانا