كاتب و أكاديمي متخصص في الإعلام الجديد
الانتظار لتحقيق الرغبات، والصبر على التأجيل أو رداءة الجودة، هي أمور تمضي إلى الانقراض اليوم، بعد أن صار الناس يعيشون حالة من البحث عن “الإشباع الفوري” للاحتياجات والرغبة في تحقيق كل شيء متى ما أرادوه كيفما أرادوه وأينما أرادوه.
هذا الوصف ليس حالة لبعض الشباب ولا لبعض الدول، بل هو اتجاه عالمي يغير كل شيء من حولنا، حتى إن كثيرا من الدراسات تقول إن العالم يتجه نحو “اقتصاد الطلب” (On-Demand Economy)، حيث النجاح التجاري يأتي فقط لأولئك الذين يسايرون هذه التوقعات النفسية لدى الجماهير بالتحقيق السريع لرغباتهم.
في الأسبوع الماضي، تكلمت عن “جيل الألفية”، وهو جيل الأفراد الذين تتراوح أعمارهم اليوم بين 10 و30 عاما، وكيف غيرت ثورة المعلومات هذا الجيل بشكل جذري على كافة المستويات (بما فيها الثقافية والدينية والعملية) مقارنة بالجيل السابق، إلا أن أحد أهم الأوصاف لهذا الجيل هو أنه “جيل الطلب” (On-Demand Generation).
المثير في الإحصائيات الخاصة بهذا الجيل هو ذلك التغير السريع لدى الإنسانية من عدم وجود خدمة الإنترنت قبل 20 سنة إلى حالة غضب كبير عندما تنخفض سرعة الإنترنت. بكلمات أخرى، ارتفعت توقعات الناس بشكل مذهل وانخفض مستوى الصبر لديهم، وخلق هذا كله واقعا جديدا يتطلب من الجميع (حكومات وشركات وأفرادا) التعامل معه.
لا شك أن التقدم السريع في تكنولوجيا ثورة المعلومات ساهم في صناعة هذه الظاهرة العالمية التي تمددت خفية في البشرية. يمكننا ببساطة أن نلوم جوجل التي ألغت من خلال “البحث الفوري” فكرة أن هناك معلومة لا نعرفها. جوجل حولت الفارق الزمني بين الجهل بالمعلومة والمعرفة بها إلى فارق بسيط جدا (يقل عن دقيقة في حوالي 90% من الحالات)، حتى صارت مسألة حفظ الأحداث والتواريخ المهمة أمرا من الماضي، وصارت الإنسانية من خلال 3 مليارات عملية بحث يوميا على جوجل تتخيل أنها تعرف كل شيء متى ما أرادت معرفته.
موقع أمازون أسهم أيضا في تحول الاقتصاد إلى حالة اقتصاد الطلب. أمازون (التي يتوقع أن تصل مبيعاتها السنوية إلى 100 مليار دولار في 2014) أسهمت في إغلاق شركات كبرى تقليدية لأنها سمحت للجمهور أن يشتروا أي شيء بسرعة هائلة ويصلهم في اليوم التالي إلى أبواب منازلهم. من جهة أخرى، أمازون تدرك تماما أن الجمهور صار من قلة الصبر أنه لو تأخر تحميل الصفحة على الإنترنت ثانية واحدة فقط فإن هذا يعني خسارة تصل إلى مليار ونصف دولار سنويا، حسب ما أعلنه الموقع بناء على دراسة قام بها.
ظاهرة “وفاة مؤسسة الصبر” كما يسميها أحد الكتاب تعود أيضا إلى ارتفاع معدلات الضغط النفسي عالميا حوالي 30% في السنوات الثلاثين الأخيرة. بسبب ذلك، هناك بحث لا يتوقف عن تبسيط الأمور وتسهيل المهام والانتهاء السريع من الأشياء، وخاصة أن الجميع يحاول أن يخفض ساعات العمل مع مضاعفة الإنتاجية، ففي الفترة نفسها (ثلاثة عقود) انخفضت ساعات العمل في أميركا إلى 33 ساعة أسبوعيا، ولكن بإنتاجية عدة أضعاف للموظف الواحد طبعا بسبب تكنولوجيا المعلومات. هذا كله زاد من التوتر لدى الناس، وأحدث تغييرات جذرية نفسية واقتصادية واجتماعية وثقافية لدى جيل اليوم، لا يمكن رصدها في مقال واحد.
في اقتصاد الطلب كل شيء متوافر بسرعة وبضغطة زر على الموبايل، وهذا خلق ثورة في تطبيقات الموبايل بعد ثورة مواقع الإنترنت. جهاز الموبايل أو “الجوال” هو الجهاز الذي سيكون مفتاحك لكل شيء تريده، وكأنه الريموت كنترول الذي تدير به العالم من حولك، وتحقق عبره كل رغباتك، بما فيها الرغبات التي لم تكن تعرف أنها موجودة أصلا.
من ناحية أخرى، هذا يضع ضغطا هائلا على المؤسسات “قطاعا خاصا أو عاما”، فالناس ليست فقط لا تتحمل الانتظار، وتريد كل شيء فورا، بل إنها أيضا جاهزة للشكوى بعد ثوان من حالة الانزعاج عبر الشبكات الاجتماعية، لتسهم الشكوى بعد الشكوى في تغير سلبي في الصورة الذهنية للمؤسسة ما لم تتحرك بسرعة وتوفر خدماتها للجماهير بالشكل الذي يتوقعونه مع مواكبة ارتفاع التوقعات السريع عاما بعد عام.
هذا يعني طبعا زيادة التكاليف على المؤسسات، مما أسهم في زيادة الاعتماد على تقنية المعلومات حتى يكون هناك توفير معين وزيادة في الإنتاجية وراحة العميل، واستخدام التوفير في رفع مستوى الخدمة، مما يؤدي في النتيجة إلى ارتفاع أكبر في توقعات العميل، مما يعني إنفاقا أكبر في الخدمات وهكذا. هذه الدوامة تشرح باختصار ديناميكية “اقتصاد الطلب” أو “اقتصاد ثورة المعلومات” الذي نعيشه اليوم.
بالمقابل هناك شركات حولت حالة الرغبة الفورية لامتلاك الأشياء إلى فن للتسويق وتحقيق المبيعات. خذ مثلا شركات أجهزة الموبايل التي تطرح أجهزتها كل عدة أشهر، مع شيء من التسويق، الذي يوجد رغبة عارمة لدى الجماهير لتبديل أجهزتها لتحقيق بعض الخواص الإضافية فقط..!
“أريده وأريده الآن” هي عبارة شهيرة باللغة الإنجليزية، وتعبر عن هذا الجيل الجديد، وعن تحولات حياتنا، التي تحصل بسرعة أكبر من قدرتنا على التعامل معها تربويا ونفسيا واجتماعيا..
أشكرك لأنك وصلت إلى هذا السطر في مقال عن موضوع معقد، استهلك منك دقائق قراءة في زمن لا يملك فيه الناس أكثر من 30 ثانية لاستعراض أي موضوع..!
المصدر: الوطن أون لاين