أن تحتفي بالربيع العربي لا يعني بالضرورة أن تحتفي بنتائجه. وأن تمارس فضيلة النقد – والنقد القاسي أحياناً – إزاء ما آلت إليه الأحوال في بلدان «الربيع» لا يعني ردّاً فكرياً ضد أفكار «التغيير» و «التطوير» و «الإصلاح» التي تنشدها وتنادي بها منذ زمن، ومن قبل أيام الربيع. لكننا في عصر شاهد على أننا في العالم العربي لم نتغير كثيراً حتى وإن سقطت أنظمة سياسية وتوارت أجيال وزادت أعداد الشباب وامتلكنا أحدث أجهزة الاتصال والتواصل. فتهم مثل «العمالة» و «الخيانة» و «التواطؤ» غدت مرتكزات جوهرية في خطابنا العربي منذ عقود. من وقف ضد الانقلابات العسكرية، في زمانها، اتُهم بالعمالة، ومن رفض أفكاراً كالقومية والاشتراكية اتُهم بالخيانة والرجعية، ومن وقف ضد الإقصاء باسم الدين اتُهم بالكفر والإلحاد.
وها نحن اليوم نشهد عصراً جديداً من التخوين والإقصاء. فثنائية «معي» وإلا فأنت «ضدي» هي اليوم سيدة المشهد. هكذا، صار المرء في حيرة من أمره: إن عبّر عن قلقه إزاء هيمنة الإسلام السياسي على المشهد كان هدفاً سهلاً لتهم التخوين والعمالة وفتاوى التكفير. وإن كان ضد هيمنة «الإخوان المسلمين» على المشهد السياسي في مصر أو تونس فهو تلقائياً مصنف من أعوان «النظام السابق» وفي دائرة «الفلول». ففي هكذا بيئة، لا يمكنك أن تعارض «الإخوان» إلا إن كنت ضد الربيع العربي. ولا يمكن أن تشكك في قدرة الأنظمة الجديدة على الخروج من «عنق الزجاجة» إلا لكونك ضد الثورة ومن عملاء حكومات تخشى من تداعيات الربيع وتحارب شباب الثورة، وإن تحدثت في أن «الإخوان» مارسوا انتهازية سياسية في أقبح صورها وقطفوا بسببها ثمار «الربيع» سُلّطت ضدك سهام التخوين وتهم العمالة لأميركا ومن أدوات التغريب.
يا سبحان الله: صارت العلاقات الودية اليوم مع الأميركيين حلالاً على «الإخوان» حرام على غيرهم؟ هي عند «الإخوان» مناورات سياسية، لكنها مع غيرهم عمالة وتآمر؟ المؤلم، في هذا المناخ المتأزم والملوث بكل أشكال التناقض والفوضى، أن يبقى العقل العربي، مثل ما كان قبل «الربيع»، أسيراً للفكرة التي تقدس الفرد على حساب الأمة و تستبدل ديكتاتورية الفرد بديكتاتورية الأيديولوجيا والجماعة.
وكل ما سبق لا يتعارض مع وجاهة الثورة التي انطلقت من تونس وامتدت سريعاً إلى مصر وليبيا واليمن وسورية. الحقيقة أنها (الثورة) جاءت إلى تلك البلدان متأخرة جداً. كل المقدمات السابقة لها كانت واقعاً شديد القسوة يعانيه المواطن هناك يومياً. القضية ليست في مبدأ الثورة نفسه. ولا في وجاهة أسبابها واستحقاقها. لكن المشكلة في تداعياتها وما آلت إليه في بعض مناطق الربيع.
صحيح أن الثورة الحقيقية تبدأ بعد سقوط الديكتاتور. وصحيح أن الثورة الفرنسية استغرقت ثمانية عقود حتى بانت وجوهها. وصحيح أيضاً أن من الظلم أن نتوقع أن تصلح الثورة في سنتين ما أُفسد على مدى أربعة عقود أو أكثر. كل هذا عندي صحيح. لكن معظم المؤشرات تكاد تؤكد أن الثورة التي كان شباب التغيير وقودها قد اختطفت وبدأت تتجه للدائرة ذاتها، ولكن في أشكال جديدة، التي انطلقت بسببها.
فهل يعقل أن يأتي بديل السيئ سيئاً إن لم يكن أسوأ؟ وكيف لنا أن نصفق ونغني لقطار نراه – عياناً بياناً – يتجه بمن فيه نحو الهاوية؟ وهنا نعود إلى جدال متجدد حول التنمية والديموقراطية: أيهما يأتي أولاً؟ أصبحتُ اليوم على قناعة شديدة الوضوح أنه لا ديموقراطية صادقة في بيئة محاصرة بالفقر والجهل وقلة الحيلة. ومن دون تنمية إنسانية شاملة تُعنى بالعقل والاقتصاد والبنى التحتية التي تؤثر في أنماط حياة الناس وتفتح أمامهم أبواباً واسعة للمعرفة والتفكير الحر فلن تتحقق ديموقراطية ولن تزهر أشجار «الربيع»! ومن دون ثورة في الفكر، تُخرج العقل العربي من سجن الماضي وتنهي قطيعته مع الراهن، سيبقى التغيير شكلياً يستبدل وجوهاً قديمة بأخرى جديدة. وسيبقى التشبث بالسلطة المتسلطة هو الغاية.
هذا بالضبط ما يحدث اليوم في مصر تحديداً. فـ «الإخوان» هناك، ومعهم أتباعهم خارج مصر، همهم الأول اليوم هو احتكار السلطة أطول مدة ممكنة. ولا مشكلة في طموحهم في السلطة لو كان الطريق إلى تلك الغاية إيماناً مخلصاً بمبدأ تداول السلطة وبتنمية حقيقية على الأرض تمنحهم شرعية البقاء طويلاً في السلطة كما هي الحال مع رجب طيب أردوغان وحزبه في تركيا. فلو لم يُقدم حزب العدالة والتنمية أجندة الاقتصاد على غيرها، من دون الانشغال بالمؤامرات من أجل الهيمنة على مفاصل الدولة، لما بقي الحزب يقود مسيرة التنمية المبهرة في تركيا حتى اللحظة. ما الذي يمنع القافزين – حديثاً – إلى السلطة في تونس ومصر من قراءة تجربة «العدالة والتنمية» قراءة عميقة وواعية واستثمارها في التأسيس لنظام يجعل من التنمية أصل الأولويات وأكثرها أهمية؟ وهم إن فعلوا فسيجدون الناس تلتف حولهم تلقائياً من دون حاجة إلى وصاية المرشد أو نصائح طهران.
المصدر: صحيفة الحياة