كاتب سعودي
صدر خلال الأسبوع الماضي تقريراً عن أساليب الاستجواب والاعتقال التي استخدمتها وكالة الاستخبارات الأميركية بعد أحداث 11سبتمبر. التقرير الذي أعدته إحدى لجان مجلس الشيوخ الأميركي يكشف في صفحاته التي تقارب 500 صفحة عنف وكالة المخابرات الأميركية، ومخالفتها لمعايير حقوق الإنسان. التقرير يتهم وكالة المخابرات الأميركية بشكل مباشر بالتضليل والوحشية والعنف الاعتباطي، ويكشف كذب «سي آي إيه» حول أهمية أساليب الاعتقال والاستجواب العنيفة في الكشف عن معلومات قادت إلى تصفية أسامة بن لادن. تضمن التقرير تفاصيل دقيقة حول استخدام التعذيب؛ لانتزاع معلومات من المشتبه بهم، والتعاون مع دول لتأسيس سجون سرية حول العالم؛ لاستجواب متهمين بالإرهاب بشكل غير قانوني.
في السياق ذاته، نشرت وكالة المخابرات الأميركية تعليقاً على تقرير مجلس الشيوخ، تضمن الاعتراف بالخلل في أساليب الاعتقال والاستجواب، ورفض تهم تعمد تضليل الرأي العام أو الجهاز التنفيذي للولايات المتحدة، وأكد تقرير وكالة الاستخبارات أن طرق الاستجواب قادت إلى معلومات مهمة لمواجهة الإرهاب، وهو ما ينفيه التقرير تماماً.
من جهته، ألمح الرئيس الأميركي باراك أوباما بشكل مقتضب إلى تقديره لنجاح وكالة الاستخبارات الأميركية في مواجهة الإرهاب، ورفضه بشدة التعذيب وأساليب الاعتقال الوحشية، والتي تسيء إلى القيم الأميركية وصورتها في العالم، وتؤثر في تحالفاتها في مواجهة التطرف.
لا يبدو أن هناك أي جديد في عناصر هذه القصة، لطالما اتهمت وكالة المخبرات الأميركية بانتهاكات حقوق الإنسان، ودائماً ما كانت ردود الفعل على هذه الانتهاكات أقل بكثير منها عندما تحدث من الصين أو كوريا الشمالية أو إيران على سبيل المثال، بل غالباً ما تتم مهاجمة من يتحدث عن هذه الانتهاكات بالرجعية والتخلف، في العالم العربي، من نخب ترى أن أميركا تمثل ذروة التطور والرقي والحضارة الإنسانية. وترى من يتحدث عن سلبيات هذه النموذج وإخفاقاته أو أسطورته، مجرد متحيز حاقد.
المسألة هنا ليست لماذا يتم توجيه الرأي العام ضد الآخرين ممن ينتهك حقوق الإنسان ككوريا الشمالية أو إيران أو سواهم؟ بل لماذا يتم تبرئة وتبرير الموقف الأميركي كل مرة بحجج لا معنى لها! منذ عقد من الزمن والمخابرات الأميركية متهمة بانتهاك آدمية البشر في إطار مكافحة الإرهاب، لكن هل تمت محاكمة جورج دبليو بوش أو أحد قادة الاستخبارات الأميركية بتهمة إساءة استخدام سلطاته؟ لم يحدث قط.
يبدو أن أميركا بحاجة إلى صور بشعة كالصور المسربة من معتقل أبو غريب، وأن يكون المتهم من الأفراد لا القيادات أصحاب النفوذ؛ ليُحاكَم المعتدون على حقوق البشر، بسجنهم بضعة أعوام، وحرمانهم من أي حوافز أو ترقيات.
دائماً ما كانت هناك رؤية سطحية للانتهاكات الأميركية حول العالم، تضعها في دوائر الاستثناء. والمخالف للقيم الأميركية التي تحترم الإنسان، وتدعو للعدل والحرية والمساواة بين البشر، أو بحسب تعبير إعلان الاستقلال الأميركي «حق البشر بالبحث عن السعادة»، في تصوير لطيف رقيق لإحدى غايات الإنسان. هذه القيم الأسطورية التي رددها الأميركيون جيلاً بعد جيل دائماً ما تصطدم بالواقع، الذي يقول بأن هذه القيم لم تتحقق أبداً، لا داخل الولايات المتحدة ولا خارجها. تلك القيم التي يبدو أنها لا تتحقق إلا لبعض المنتمين إلى العرق الأبيض.
عندما يتم الحديث عن الإبادات الجماعية بحق الهنود الحمر في التاريخ الأميركي، يشار إلى المتحدث باعتباره مجنوناً يتحدث عن قرون خلت، بينما نحن أبناء اليوم، ولنا الحكم على الحاضر. ولا وجه لإدراج قصص عتيقة كتلك.
عندما يتم الحديث عن الانتهاكات العنصرية بحق السود، يقال إن كل هذا أُزيل بفضل حركة الحقوق المدنية في الستينات، التي أنهت التمييز والفصل العنصري، على رغم ترسباته العميقة في المجتمع المؤسسات الأميركية حتى اليوم.
لكن ماذا عن الحروب الأميركية، وتدخلاتها حول العالم القائمة الآن؟
من بداية الحقبة التي تلت الحرب العالمية الثانية، وحتى اللحظة لم تكف أميركا عن التدخل سياسياً وعسكرياً في جل دول العالم. وأضافت الحرب على «الإرهاب» والتطورات التكنولوجية الحديثة باستخدام الطائرات من دون طيار عناصر جديدة على الوحشية الأميركية، التي لم تزل باسم القيم الأميركية تمطر القنابل والصواريخ على الأبرياء حول العالم، وقتلت وتقتل الملايين خلال عقود.
تعبير «القتل باسم القيم الأميركية» ليس مجازاً أبداً. بل هو وصف حرفي لما يحدث. فأميركا -على سبيل المثال– دمرت العراق، وقتلت الملايين من أجل إزالة صدام حسين، وفرض القيم الأميركية -على حد تعبير الرئيس الأميركي السابق جورج بوش-. وهذا ما يعلنه أوباما؛ لتبرير حربه ضد «الإرهاب».
غالباً ما يتم وضع الانتهاكات الأميركية في سياق «الاستثناء». فالقيم الأميركية عظيمة وعدل، ولكن هناك استثناء الحرب الكورية، واستثناء فيتنام، واستثناء العراق، واستثناء التدخلات الأميركية في أميركا الجنوبية ودعم الديكتاتوريات والانقلابات العسكرية، وهناك استثناء الحرب على الإرهاب واستثناء القتل باستخدام الطائرات من دون طيار، واستثناء انتهاكات المخابرات المركزية الأميركية التي يكشف عنها تقرير مجلس الشيوخ الأخير.
ثم يأتي استثناء أميركا الأعظم، بدعمها استثناء إسرائيل من القانون الدولي، ودعمها في كل جرائم الإبادة والقتل والاحتلال التي ترتكبها الدولة الصهيونية في حق العرب منذ ثلاثينات القرن الماضي.
لنكتشف أن الحديث عن القيم الأميركية هو حديث عن سلسلة ممتدة من الاستثناءات التي طمست أصلاً لم يوجد قط.
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Badar-Al-Rashad