كاتب سعودي
أشار المقال السابق إلى أن مفهوم “المصلحة الوطنية” يعد مفهوما مطاطا وغائما، ما يجعل تحديد المصلحة الوطنية على وجه الدقة أمرا صعبا بطبيعته، وهو تحد تواجهه جميع الدول بلا استثناء نظرا لكون تحديد المصلحة هنا يتداخل بين عديد من العوامل ومنها التباين الفكري داخل الدولة ورؤية الدولة نفسها للعالم ولساحته السياسية وتعريفها لما تكمن مصلحتها فيه. ويشير مصطلح “المصلحة الوطنية” في أبسط تعريفاته إلى “المنفعة” المتوخاة لأي دولة كهدف نهائي لسياستها الخارجية، فالدولة في نهاية المطاف هي إطار تنظيمي بحدود جغرافية يجمع شعبا تحته ويعمل على تحقيق المنفعة لهم ودفع الضرر عنهم.
المصلحة الوطنية يمكن اعتبارها هنا بمثابة “نجم الشمال” للسياسة الخارجية لأي دولة، فهي تحدد وجهة السياسة ضمن مساحة متعددة الأبعاد. إلا أن تحديد الوجهة لا يعني بالضرورة تحديد الدرب الأمثل للوصول إليها، وهو ما يزيد من تعقيد المسألة. المعضلة الرئيسية عند الحديث حول مصلحتنا الوطنية حاليا تبرز عند تقاطع الأطر العامة لهذه المصلحة مع تطبيقها على أرض الواقع.
تقوم السياسة الخارجية السعودية على عدة مرتكزات، لعل أبرزها وأهمها هو سياسة حسن الجوار، وعدم التدخل في شئون الغير، والحياد الإيجابي والمحافظة على الوضع الإقليمي القائم status-quo، بما يخدم أمن واستقرار المنطقة اللازمين لدفع التنمية. إلا أن الواقع الإقليمي يفرض أمورا عكس ذلك تماما، فالدور الإيراني في المنطقة –على سبيل المثال– فرض على المملكة لعب دور أكبر في سياستها الخارجية، سواء في البحرين أو سورية أو لبنان، كما أن اختلاف وجهات النظر مع الإدارة الأميركية الحالية حول عدد من الملفات، ولعل أبرزها الموقف تجاه مصر عقب 30 يونيو، جعل المملكة تسعى لمصلحتها الوطنية بعيدا عن الأطر الاسترشادية والمرتكزات القائمة لسياستها الخارجية، وهو ما يدفع للتساؤل حول ما إذا كانت المملكة بحاجة اليوم لإعادة النظر في أطر مصلحتها الوطنية بما يتوافق مع أرض الواقع كما هو فعلا لا كما هو مأمول من أفكار نبيلة لا مجال لتطبيقها.
ترى المملكة على سبيل المثال منذ تأسيسها تلازما بين مصلحتها الوطنية وبين دورها كقبلة المسلمين، وهو ما يفرض عليها دورا رئيسيا في العالمين العربي والإسلامي، يضاف لذلك فائض الثروة الذي تتمتع به والذي أوجب عليها استخدام جزء منه لتثبيت مكانتها التاريخية والسياسية. وضمن هذا الإطار فإن المملكة جعلت من قضية التضامن الإسلامي أحد أهداف سياستها الخارجية لما ينعكس هذا الأمر عليها بالإيجاب كدولة راعية في العالم الإسلامي، ويزيد بالتالي من قوتها ومكانتها إسلاميا وقدرتها على التأثير. إلا أن هذا الإطار العام للمصلحة الوطنية يصطدم بواقع سياسي قائم حاليا دفع المملكة لأن يتم تصويرها كراعية للإسلام السني سياسيا في العالم، ضمن تجاذب طائفي سني-شيعي استحوذ على الساحة السياسية. يبرز هذا الأمر بشكل جلي في حالة العراق –الدولة الأكثر نكبة بهذا التباين الطائفي– فالتطبيق السياسي على أرض الواقع يدفع المملكة لأن تقف موقفا مساندا للسنة هناك نتيجة ما يتعرضون له، ونتيجة الضغط الداخلي الشعبي في المملكة والذي يرى أن المصلحة الوطنية تكمن في الوقوف خلف الاصطفاف السني العراقي. ولكن لأي مدى يخدم هذا الأمر مصلحتنا الوطنية على المدى البعيد؟ تختلف الإجابة بحسب تعريف المصلحة الوطنية نفسها، ومن يرى أن مصلحة المملكة الوطنية المثلى تتمثل في الحفاظ على دورها كدولة راعية في العالم العربي والإسلامي ربما يرى أن تقارب المملكة مع المكون العربي العراقي الشيعي يخدم المصلحة الوطنية بشكل أكبر وأكثر فعالية.
القول إن مصلحة المملكة الوطنية في سياستها الخارجية تكمن في الحياد الإيجابي لا يعكس التطبيق الفعلي على أرض الواقع، فالمنطقة اليوم ما عادت تقبل مثل هذا الحياد، وسياسة المملكة الخارجية أثبتت في عدد من القضايا –أبرزها سورية – أنها تسير على أرض الواقع في اتجاه يختلف عن الأطر العامة التي رسمت في فترات سابقة. ويظهر هذا التباين بشكل أكبر حين المقارنة مع دولة مثل إيران، والتي تتبنى مشروعا سياسيا وعقائديا يجعلها – بغض النظر عن عدم صوابه – تحدد مصالحها الوطنية بشكل واضح كما في سعيها لأن تكون راعية التشيع السياسي عالميا وأن تسعى لتوسيع دائرة نفوذها الإقليمي من خلال التدخل عبر جماعات محلية وعبر اللعب بورقة النفوذ العسكري. والسؤال هنا: هل المملكة تود أن تتحول في المقابل لراعية للسنة في العالم؟ بما ينطلي عليه هذا الأمر من انجذاب للعبة التي أوجدتها إيران نفسها، أم أن المصلحة الوطنية تنطلق من محددات أخرى أعمق من مجرد هذا الأمر؟
هذه المسألة تقود لنقطة بالغة الأهمية، وهي تعريف الدولة لنفسها، فالمصطلح الفرنسي المرادف لمصطلح المصلحة الوطنية raison d’etat والذي يعني حرفيا “سبب الدولة” يكشف حجم الهوة التي نعاني منها عند الحديث عن مصلحتنا الوطنية، فنحن لا نزال نعاني من فقدان هذا التعريف نتيجة غياب المشروع السياسي، وهو ما يقود بالتبعية أن تتحول السياسة الخارجية لمجرد رد فعل على المشاريع الأخرى التي تنطلق من محددات ثابتة، بدلا من أن تكون سياستنا نفسها انطلاقا من مشروع واضح المعالم. والتحدي الأبرز هنا أمام سياسة المملكة الخارجية في الفترة القادمة سيكون إعادة رسم أطر المصلحة الوطنية ضمن قواعد أكثر رسوخا تنطلق من مشروع متصل بالواقع وله رؤية تطبيقية على الأرض، لا مجرد مرتكزات تنطلق من شعارات وخطوط عامة رغم نبالة مقصدها.
السياسة في جوهرها لعبة تنافس بين الأمم، ويتحكم مفهوم “ميزان القوة” في هذه اللعبة، حيث يتم اعتبار أي فائض قوة لدى دولة ما خصما من رصيد الدولة المقابلة، وهو ما يجعل الهدف الأساس لأي دولة على مسرح العلاقات الدولية هو الاستمرارية والبقاء. وللأسف، فإنه رغم التقدم الهائل للبشرية وخاصة خلال القرن الماضي لم يصل العالم بعد لمرحلة إيجاد إطار تنظيمي فعال للعلاقات بين الدول بعيدا عن هذا الإطار، وهو ما يؤسس في واقع الأمر لحالة النسبية الأخلاقية في السياسة. ومن ثم فإن محاولتنا لترشيد السياسة بإعطائها بعدا أخلاقيا من خلال رسم أطر عامة لمصلحتنا الوطنية منفصلة عن الواقع لا تخدم في حقيقة الأمر لا مصلحتنا الوطنية ولا المنظومة الأخلاقية التي ننطلق منها، بل على العكس، نحن نضيع بذلك نجم الشمال الذي من المفترض أن يهدينا في صحراء سياسة هذا العالم.
المصدر: الوطن أون لاين