كاتب سعودي
طلب النجاة البدائي الغريزي فقط هو ما يجعل الكائن الحي يتراجع مذعورا إلى الخلف عند استشعار الخطر. ليس في هذا التراجع محاولة انتصار، بقدر ما فيه من محاولة المقاومة مؤقتا من داخل الأسوار. إذا كان مفهوم الهجوم إلى الأمام هو أفضل وسيلة للدفاع عند الأمم اليقضة المتحفزة، فإن التراجع إلى الخلف هو الوسيلة المفضلة للدفاع عند الأمم المتبلدة. التبليد هنا لا يحصل بالأعشاب المخدرة والعقاقير وإنما باجترار مجد مضى زمنه ولا يمكن استرجاعه بالوسائل القديمة.
إنه تخدير معنوي يشبه الإقناع بنجاعة الرمح والسيف ضد الصاروخ والقذيفة، أو بكفاية السلاح الذي يشترى من السوق العالمي لمقاومة صانعيه، وهم لا يبيعون للآخر سوى ما تقادم في المخازن واستبدلوه بما هو أحدث منه.
محاولات استرجاع بيت المقدس وبلاد الشام من الصليبيين كلف أهل المنطقة مائتي سنة من الرضوخ والإذلال الديني والتاريخي ومئات الألوف من القتلى والسبايا، بالإضافة إلى الثروات المنهوبة.
شجاعة وصبر صلاح الدين، مضافة إلى صراعات الغزاة الصليبيين في ممالكهم الأصلية حسمت النتيجة النهائية، لكن ما الذي حدث بعد ذلك؟
الذي حدث هو بالضبط تقبل ألف عام من الهزائم المتكررة داخل الأسوار القديمة. الغزاة استقووا وعادوا من جديد، ولكن بالأبحاث العلمية وتطوير الترسانة الحربية والآلة الدعائية، أما الطرف الآخر فاكتفى بالعودة إلى ماضيه، مثل حليمة التي لا تترك عاداتها القديمة.
الغزاة القادمون مجددا من الغرب لم يعودوا بالسيوف والرماح والخيول والدروع، وإنما بالمدافع والبنادق والخرائط والجواسيس وعلماء الأحياء والنبات والآثار والتاريخ.
لذلك عندما قدم نابليون إلى مصر لم يواجه سوى بنفس النوع القديم من محاولات المقاومة، أي بنفس الوسائل ونفس المفاهيم، الرجوع إلى الخلف والتترس خلف الأسوار القديمة. ذهب نابليون من مصر بعد أن طرده الإنجليز واحتلوا مكانه، وما زالت مصر حتى اليوم على ما كانت عليه. الوضع في بلاد الشام أسوأ بكثير، وكذلك في العراق وليبيا والسودان واليمن، ومنطقة الجزيرة العربية مهددة جديا بنفس المصير.
تزداد المشاكل تعقيدا بقدوم أنواع أخرى من الذئاب من الشرق والشمال، بالإضافة إلى الذئاب القادمة عادة من الغرب.
استعراضات الصحوة ومشروع دولة الخلافة الإخواني وتنظيمات القاعدة وداعش النصرة وكتائب الإسلام وجند الشام وجبهة الشريعة وحركة الشباب، إلى آخر الموجود في هذه الساحة الفوضوية، كل ذلك تنطبق عليه مواصفات الرجوع إلى الخلف والعجز عن الاستعداد المناسب بالانتقال إلى التجديد.
الفاعلون الحقيقيون يجددون باستمرار في مصادر القوة والتغلغل، والمفعول بهم منذ ألف سنة مستمرون في البحث داخل حجراتهم القديمة عن شيء يدافعون به عن أنفسهم وتنتهي بهم الأمور إلى التقاتل فيما بينهم داخل ما تبقى لهم من أسوار.
يبدو أن إيران التي ما زالت تسمي نفسها الجمهورية الإسلامية، بعد أن قبلت لمئات السنين بطريقة الانكفاء إلى الداخل وتقبل الغزوات الخارجية، أصبحت تدرك شروط اللعبة فانتقلت من التراجع الدفاعي إلى التجديد والهجوم نحو الأمام وبدأت تحصد الغنائم.
مرة أخرى، السيف والرمح والأسوار القديمة لا تقدم أي حصانة ضد مستجدات القوة العلمية.
المصدر: الجزيرة السعودية