كاتب وأستاذ جامعي موريتاني، له كتب ودراسات عديدة منشورة في ميادين الفلسفة المعاصرة وإشكالات التحول الديمقراطي.
رغم الضجة الهائلة التي خلفها نجاح «رونالد ريغن» عام 1981، لم يحدث للولايات المتحدة أن عرفت هزة سياسية مماثلة لتلك التي ولدها وصول رجل الأعمال المثير للجدل «دونالد ترامب» للسلطة في انتخابات 9 نوفمبر الجاري. لم يكن ريغن القادم للعمل السياسي من هوليوود غريباً عن الحقل السياسي الأميركي وهو الذي تولى لمدة دورتين ولاية كاليفورنيا ومثّل الجناح الأقوى في الحزب الجمهوري (الجناح النيوليبرالي المحافظ) كما أحاط نفسه بأبرز رموز النخب الجامعية الأميركية، فيما بدا ترامب نشازاً في الحياة السياسية حتى داخل الحزب الذي رشحه للسلطة، محدود الصِّلة بمراكز التأثير والنفوذ الفاعلة في الشأن العمومي بما فيها الأوساط الإعلامية.
كثير من المعلقين والمحللين اكتفوا في تفسيرهم نجاح ترامب بأطروحة «العولمة المريضة»، أي الاختلالات الاجتماعية المتولدة عن حركيّة التبادل الاقتصادي والتجاري مع العالم، والتي قوضت القاعدة الصناعية المحلية وقلصت فرص الشغل وحكمت على ملايين الأميركيين بالتشريد والإقصاء.
الاختلالات المتولدة بالخصوص عن الأزمة المالية الأخيرة هي التي تفسر وفق هذه المقاربة نجاح ترامب في ولايات الحزام الصناعي الأميركي التي كانت موالية تقليدياً للديمقراطيين، كما تفسر انحياز الكتلة الانتخابية العمالية له. ومن الجلي أن برنامج ترامب الاقتصادي يتمحور حول حماية الصناعة الوطنية ومراجعة اتفاقيات التبادل الحر مع أوروبا وأميركا الشمالية والصين وغلق أبواب الهجرة الخارجية.
بيد أن هذه الأطروحة الاقتصادية لا تكفي لفهم الزلزال الأميركي الأخير في أبعاده السياسية والمجتمعية وصياغاته الأيديولوجية، فالسؤال المطروح هو: لماذا استطاع ترامب بخطابه الشعبوي الذي يصل حد المواقف العنصرية (ضد السود واللاتينيين والمسلمين) والمحافظة المتشددة بالمقاييس الأميركية (ضد الإجهاض والمثلية الجنسية)، أن يحصد إيجابيا آثار الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي استفاد منها جزئياً مرشح الجناح اليساري للحزب الديمقراطي «بيرني ساندرس»؟
قيل الكثير حول نقمة «الأبيض الأميركي» في مواجهة مجتمع الهجرة المتنوع الذي انتخب «أوباما» قبل ثماني سنوات، ووقف البعض عند مدن الجنوب المحافظة دينياً والمتعصبة قومياً التي انحازت لترامب. بيد أن الخصوصيات الأميركية المعروفة لا تفسر وحدها هذا الحدث الهائل الذي يتعين ربطه بتحولات جوهرية تتجاوز الحيّز الأميركي الضيق، تتعلق في مجملها بطبيعة الخطاب السياسي وآليات العمل السياسي في علاقة الدائرة السياسية ذاتها بالتركيبة الجديدة للمجتمعات الصناعية الراهنة.
في هذا الأفق لا يمكن فصل ظاهرة ترامب (على خصوصياتها البديهية) عن ظواهر مماثلة في البلدان الديمقراطية الأوربية وخارجها، باعتبار الأمر لا يتعلق بمجرد تحول في الحقل الأيديولوجي للمجتمعات الليبرالية، بل هو تحول في منطق الفعل السياسي ذاته وأدوات الحكم المترتبة عليه.
وفق هذه المقاربة، ليس صعود التيارات اليمينية المتشددة التي أصبحت القوة السياسية الأولى في عموم البلدان الأوروبية، سواء وصلت للحكم أم لم تصل إليه، سوى مظهر لهذا التحول الجوهري الذي من تجلياته البارزة للعيان: انهيار الأحزاب التقليدية التي طبعت الحياة السياسية في الديمقراطيات الغربية، تغير طبيعة رجل السياسة الذي لم يعد نموذجه المثقف الجامعي المحترف ذو القدرات الإقناعية الفكرية، انتقال محور المسألة السياسية من منطق الصراع الاجتماعي إلى منطق صراع الهويات القومية والثقافية، الانتقال من محورية فكرة الحرية بدلالاتها الاقتصادية والسياسية إلى محورية فكرة الأمن.
بدأ هذا الاتجاه في إيطاليا في عهد رجل الأعمال القادم للسياسة من شاشات الإعلام التلفزيوني «برلسكوني» (مثل ترامب) وامتد إلى عدة بلدان أوروبية أخرى قبل أن تبرز النسخة الروسية منه مع «بوتين»، ووصلت آثاره بريطانيا التي اختارت في استفتاء شعبي الانفصال عن أوروبا والانغلاق على هويتها وحدودها القومية.
لكن الأمر هنا لا يتعلق بنموذج جديد من الأحكام السياسية بل بأزمة عميقة تطال المؤسسات السياسية للدولة الليبرالية الحديثة وآليات تمثيلها للمجتمع، متولدة عن الانفصام المتفاقم بين الديناميكية الاجتماعية والجسم السياسي من جهة، ومن جهة أخرى بين السياسة كتدبير للشأن العمومي واعتبارات العولمة الاقتصادية والتقنية التي خرجت عن قبضة الفعل السياسي.
من الُخلف تصديق وعود ترامب الانتخابية الاستفزازية (التي بدأ يتراجع عنها)، وليس من المتوقع أن تنجح «حلوله» الراديكالية في معالجة أوضاع المجتمع الأميركي المتصدع، لكن من المؤكد أن ظاهرة ترامب تشكل لحظة تحول عميق في المشهد السياسي الأميركي.
المصدر: الإتحاد