خاص لـ هات بوست:
كانت أمي رحمها الله تقضي فروض صلاة يومين مع كل يوم، أي ما يعادل على الأقل 34 ركعة إضافية، خوفاً منها أن تكون قد قصرت يوماً في أداء الصلاة، إلى أن كاد اليأس ينتابها ذات يوم، عندما سمعت في برنامج إذاعي ما قاله أحد الشخصيات “الإسلامية” آنذاك، بما معناه أنك مهما فعلت لن تنجو من عذاب الله بدليل أن صديق رسول الله (ص) وثاني الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المبشرين بالجنة عمر بن الخطاب قد رآه أحد الصحابة في حلمه بعد عشرين سنة من وفاته، رآه يمسح عرقه فسأله عن حاله فأجاب: “الآن قد فرغت ولولا رحمة ربي لهلكت”. فكان لسان حال أمي: أين أنا من عمر؟ كم سنة سأقضي بالعذاب إذاً؟ ما الفائدة من كل هذه الصلوات؟ ثم ما لبثت، الحمد لله، أن عادت بعد أيام إلى ثقتها برحمة رب العالمين وتابعت ما مشت عليه.
ربما يشكل الوازع الديني والخوف من العذاب رادعاً لكثير من الناس، كما يشكل الطمع بالجنة حافزاً للالتزام بطاعة الله، لكن الموضوع كما أراه متشعب، الفرع الرئيسي فيه هو ما تم إغفاله في تربيتنا ومناهجنا وإعلامنا وكل ما حولنا، أن الله تعالى “رحمن رحيم” غلب الرحمة على العذاب، ووعدنا {إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} (النساء 40)، فأبت المنظومة الدينية إلا أن تكرس وجهاً آخر لله تعالى هو “المنتقم الجبار” الذي سيعذبنا عذاباً لا يمكن تخيله، ورغم أن التنزيل الحكيم قدم الصورتين إلا أن الصورة الغالبة فيه هي الرحمة، أما الانتقام فممن خرج عن الصراط المستقيم إلى نطاق الإجرام وآذى الناس، لا ممن ارتكب ذنباً صغيراً وعصى أمر ربه ثم استغفر واعتذر، فإذا بالله “غفور رحيم”.
لا يعني هذا أن نرتكب ما نشاء من المعاصي ونحن نعتمد على أن الله سيعفو عنا، بل يأتي التمييز بين السيئة والذنب، والخطأ والخطيئة، فليست كلها واحدة، والغيبة على سوئها لا تتعادل مع قتل النفس.
من جهة أخرى نحن نطلب الرحمة من الله لطفل صغير قتل في حضن أمه، قد يقول البعض ما الضير في ذلك؟ الضير أننا نظن بالله السوء، حاشاه، فإذا كنا نحن البشر نتعاطف مع حالة كهذه، فكيف بالله تعالى وهو أرحم الراحمين، والمنطق يقول أن ذاك الطفل بريء لم يرتكب أي خطأ أو معصية أو سيئة أو ذنب، فلماذا سيعذبه الله؟ الضير يكمن في الصورة ككل، إذ نتصور الله على شاكلتنا يحمل ذات المشاعر وننسى أنه “ليس كمثله شيء”، وبالتأكيد لا يريد لنا العذاب لكل شاردة وواردة.
ثمة فرع آخر يحتاج لإعادة النظر، إذ تعتبر القوانين في شتى المحاكم أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، ولا تقع عليه العقوبة إلا بعد الحساب، رغم أن هذا الكلام قد تخرقه بلدان عدة، لكن القوانين والخروقات هي إنسانية، ولا يمكن لها مهما بلغت درجة عدالتها أن ترقى للعدالة الإلهية، ومن ثم هل يمكن لرب العالمين مطلق العدالة أن يعذبنا قبل يوم الحساب؟ أليس الإيمان باليوم الآخر هو بند رئيسي في الإسلام؟ أليس في حينه سنلقى كتبنا ونرى نتيجة أعمالنا في الدنيا ومن بعد ذلك ننال جزاءنا؟ رب قائل هناك في التنزيل الحكيم ما يؤكد عذاب القبر، لكن الباحث المتدبر يجد في التنزيل ما يفيد أن هناك صورة يراها المحتضر ساعة وفاته تعكس نتيجة أعماله صالحة أم طالحة (الواقعة 83—94) ، ثم ينام إلى يوم البعث {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُم مِّنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ* قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} (يس 51- 52) وكل ظنه أنه نام يوماً أو بعض يوم {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلْ الْعَادِّينَ} (المؤمنون 113).
قد يبدو الموضوع برمته غير منطقي بالنسبة للملحدين، ولكننا معشر المسلمين نؤمن باليوم الآخر، إيمان تسليم كإيماننا بالله تماماً، وبالنسبة لنا الحياة الآخرة هي الباقية والحياة الدنيا تمهيد لها، ولا يمكن أن يموت كثير من الناس ظلماً ولا يعوضوا، ولا أن يموت الظالمين دون حساب، لكن هذا كله لا يعني أن نعيش بهواجس عذاب القبر ونؤلف الكتب للصغار واليافعين والكبار لنشرح أهواله، بل نحن نعيش حياتنا ملتزمين بالابتعاد عن المحرمات مطيعين لأوامر الله عز وجل، متأسين برسوله (ص) وخلقه العظيم، يجب أن نعمل عملاً صالحاً بكل ما أوتينا من قوة، راجين الخير لنا ولغيرنا، كخلفاء على هذه الأرض، ثم نطمئن ونثق برحمة الله جل وعلا ونأمل أن حياتنا الآخرة ستكون نعيماً، وإن كنا نحلم بالجنة فالأفضل أن تصبح الأعمال الصالحة منهجاً دون غاية، أي لذاتها لا طمعاً بالنتيجة، فهي فطرة إنسانية يشترك بها كل الناس بغض النظر عن مدى إيمانهم.
أما جهنم فهي كما كان يصفها الراحل محمد شحرور “تشتكي إلى الله قلة النزلاء، إذ لا يملأ إلا المحدود”، حيث المقصود قوله تعالى {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} (ق 30)، وهي لا شك محدودة ستتسع للمجرمين كما هي السجون على الأرض.
ربما كان من رأى عمر في الحلم صادقاً، ومن نقل حديثه صادقاً أيضاً، لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: هل علينا أن نؤمن بأضغاث أحلام تناقض ما جاء في التنزيل الحكيم من وعود أرسلها الله تعالى لنا لنأمل برحمته وعفوه؟