يحكى أنه في يوم من الأيام كانت لغة العلم هي العربية، فكانت الكتب والأبحاث تقدم باللغة العربية حتى لو كان أصحابها من قوميات أخرى، وكان غير العرب يتباهى أحدهم فيدخل مفردات عربية إلى حديثه.
إلا أن مفلس هو من يبحث في الماضي عما يفخر به اليوم، فحاضرنا يدل على أننا أبعد ما نكون عن العلم والعلماء. وإذا كان لكل جواد كبوة فنرجو ألا تطول تلك الكبوة، وأن يصحو الجواد ذات يوم، لكن صحوته لا بد لها من أسباب، و”لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”.
ما في أنفسنا هو ثقافة موروثة لا تعطي أهمية للعلم إلا إن كان شرعياً، فترى أحد “رجال الدين” يوجه الناس بحكمته مصراً على تسفيه أهمية العلوم التطبيقية من طب وهندسة وفلك وجيولوجيا، باعتبارها علوم مادية لا أهمية لها، بينما يعتبرالعلوم الغيبية هي أرقى درجات العلم كونها ترقى بالإنسان إلى الروحانيات. ورب سؤال هنا أي علم بها إن كانت غيبية لا يمكننا إدراكها؟
وما في أنفسنا هو أننا ما زلنا “خير أمة أخرجت للناس”، بغض النظر عن مدى التزامنا بما جاءت عليه تلك الأمة، وبالتالي علينا التفرغ للعبادة وسنستفيد مما ينتجه “الكفار” المسخرون لخدمتنا، وهنا يحضرني ما كان ينقله الدكتور الراحل محمد شحرور عن أبيه قوله بما معناه أننا نحمد الله على كون من يكتشفون علاج الأمراض يصابون بأمراضنا ذاتها وإلا ما وجدنا علاجاً.
وما في أنفسنا أن الله تعالى “يمدهم في طغيانهم يعمهون” ونحن من سنفوز بالآخرة فلا ضير إن تركنا لهم الاستمتاع بالدنيا.
رب قائل: وماذا عن ابن سينا والرازي والفارابي والخوارزمي؟ هم مسلمون نعم، وهم وأمثالهم شكلوا عصر النهضة الإسلامي، لكن الجواد كبا وانتصر فكر النقل على فكر العقل، وأصبح العقل منبوذاً، حتى تكرست ثقافة النقل والحفظ والتلقين لتغدو هي السائدة والمعتمدة في مناهجنا التعليمية، كنهج متكامل لا يعطي أهمية للبحث والتفكير، يعمم على جميع الاختصاصات، ولا يقتصر على ما يتعلق بالإسلام فقط، حيث السؤال مكروه وكل ما عليك هو قبول ما تسمعه دونما نقاش، وإلا حل عليك غضب ابتداءً من المعلم وصولاً إلى الله، كما يدعون زوراً وبهتاناً.
ففي ظل جو كهذا يغدو العلم بعيداً عن أولوياتنا، لا كأفراد وإنما كجماعات وجامعات، وتصبح الفكرة الأكثر رواجاً أن العلم يتعارض مع الدين، وبالتالي دعونا من الأسئلة المنطقية ولا تجعلونا نشكك فيما تعلمناه لألا نضل ونكفر.
لكن المفارقة التي علينا أن نلم بها هو أننا والحالة هذه، والله أعلم، ضالون، فلا نحن تقدمنا في الدنيا، ولن يرضى عنا الله وفق ما جاء في كتابه الكريم.
فالدعوة إلى التفقه والتدبر والتعقل هي الأشد في التنزيل الحكيم، وأبانا إبراهيم الذي نأتم به هو من جادل ربه كي يطمئن قلبه، ولم يؤمن بلا سؤال، والله تعالى يحثنا على السير في الأرض للتعلم لا للسياحة فقط، سواء لأخذ العبر من التاريخ أو النظر في الخلق وشؤونه {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ۚ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (العنكبوت 20)،
والله تعالى أراد لهذا الكائن الذي اختاره من بين مخلوقاته جميعها ليكون خليفة في الأرض أن يسبر أغوار الكون وينظر فيه ويبحث، ويسخر ما فيه لخدمته، فيتغلب على الأمراض قدر الإمكان، ويستغل الموارد الطبيعية لحياة أفضل للجميع، لا أن يتقوقع على نفسه منتظراً الآخرة، فالعبادة ليست شعائر فقط، وإنما كل عمل صالح فيه خير للناس.
وبالعودة إلى السؤال الأهم: هل يتعارض الإسلام مع العلم؟
للأسف على ما نعيشه نعم، لكن ما يجب أن نكون عليه لا.
فرسالة الإسلام هي الإيمان بالله والعمل الصالح، وكون الجزء الأول مسلمة لا تستطيع البرهان عليها، لا يمنع أن تقبل كل ما جاء به العلم حتى اليوم، وإن لم تجد له أساساً في القرآن، فلأن القرآن لم يرسل لنا ككتاب فيزياء أو علوم.
أما العمل الصالح فلا حدود له. وإن كنت تريد أن تعمل صالحاً فلتساهم بما فيه خير للإنسانية، وفق استطاعتك، ابتداءً من إزاحة الأذى عن الطريق وحتى اكتشاف علاج طبي أو اختراع جهاز تكنولوجي أو تعلم ذكاء صنعي، لتستطيع أن تضع قدمك في ركب الحضارة، ولا تتذرع بالإسلام، فالله تعالى ابتدأ الوحي إلى رسولنا محمد ب “إقرأ” والقراءة ليست فك الحرف، وإنما التعلم، ونحن فهمنا الموضوع على أنه فرض كفاية، فندرس نحن الناسخ والمنسوخ ويدرس غيرنا كل ما يتعلق بالعلوم التطبيقية، وحتى الإنسانية.
قد يخطر في بالك سؤال، وماذا عن الغيبيات التي وردت في التنزيل الحكيم؟ هي أمور لا نملك لها تفسير اليوم، لكن ربما ستفسرها الأجيال القادمة، فهي غيب بالنسبة لنا وفق أرضيتنا المعرفية، كما كان قوله تعالى {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} (المؤمنون 14) غيباً بالنسبة لقريش حين نزلت.
خلاصة القول ديننا بسيط، فلا نعقده، ولا ندخله في مباراة مع العلم، وكل ما علينا هو الإيمان بأن الله جل جلاله دعانا للتفكر والتدبر فلا نخشى من الأسئلة ولا من الأجوبة التي قد نصل إليها، وإلا فسنبقى ننتظر ما يمن به علينا العالم المتحضر.