كاتب إماراتي
لا بأس.. يمكنك أن تدندن بلحن المسلسل إذا كنت لاتزال تذكره.. ولم تفسده ألحان «بوس الواوا» الطارئة!
المعضلة الحقيقية في قضية العلاقة بين الأبناء والآباء هي أن فاقد الشيء لا يعطيه؛ فلا يمكن للابن أن يفهم شعور والديه تجاهه، وما مرا به وأي نوع من المشاعر كانا يكناها له صغيراً، ولماذا كانت خياراتهما كذا وكذا، ولماذا ضحيا بهذا وذاك إلا بعد أن يحمل قطعة اللحم الصغيرة التي تصرخ بصوت يتناقض مع حجمها ليؤذن في أذنها اليمنى، لن تفهم شعورهما تجاهك، إلا في تلك اللحظة التي تخاف فيها وأنت تضع بقايا تمرة لتحنك فيه مولودك وتدعو سراً ألا يختنق بها!
المشكلة الأخرى هي أن الذكريات التي يحتفظ بها العقل البشري – في الغالب – تبدأ من العام الخامس أو قبل ذلك بقليل، لو أن الذاكرة تحتفظ بذكريات الطفولة الأولى لتغير شكل تعامل الأبناء مع آبائهم، لو أنهم يذكرون السنوات الأولى لتغير وجه العالم، كل ذلك التعب والهدهدة، والتربيت، وتحمل السوائل والصلائب والغازات والأصوات، لو أنهم يذكرون «فزة» النوم كل ساعتين للاطمئنان على أنك لم تتوقف عن التنفس أو تبتلع حليب قيئك! لهذا كان ذلك المشهد العبقري في فيلم «لوسي»، التي بسبب عقاقير معينة استعادت القدرة على تذكر كل شيء؛ فكان أول شيء اتصالها بوالدتها لتشكرها بطريقة مؤثرة على طعم حليبها الحنون في فيها (أو فمها إن لم تكن علاقتك بالأسماء الخمسة طيبة!).
حين تمر السنوات سوف تفهم، لا تستعجل، حين تطالع الأخبار المقرفة فتحتضنهم؛ وأنت تقسم بأنك لا تريد من هذه الدنيا ولا من ربيع العرب ولا خريفهم ولا شتائهم ولا صيفهم اللاهب إلا أن يحظى أبناؤك بمستقبل بعيد عن كل هذا الخراب والظلم وسوء الخلق والنوايا، فأنت تستحضر صورة لحضن سابق (هل تتخيله بالأبيض والأسود مثلي؟)، سبق أن احتضنه أحدهم لك وهو يعبر جسر الحسين إلى المجهول، أو أثناء قصف ظالم لبورسعيد أو في نكبة عربية في الكويت أو في أيلولٍ أسود، هل كان أيلول أبيض قط! سنة الحياة أن تكون هناك أيام فتن كالليل مظلمة، فأي خوف كان في تلك القلوب علينا؟
الآن تفهم، وأنت تجري من مستشفى يعطيك بيان ولادة، إلى مدرسة ترغب في لون معين للملابس على مقياس بينيتون، إلى لوحة مدرسية سخيفة تمثل إمبراطورية ما كانت تحكم العالم من بغداد بلا ميليشيات، تتساءل وأنت تجاهد للحصول على موقف: أحقاً كانت بغداد آمنةً ذات حقبة؟! إلى مركز صحي لموعد تطعيم، إلى إدارة لاستخراج جواز وعدد لا ينتهي من البطاقات؛ إلى طبيب لتسأله متوجساً عن تبول لا إرادي لأحدهم، ورغم ذلك فأنت سعيد، إن لم أفعل هذا من أجلهم فلمن أفعله، ولكنك تنسى بأن أحدهم قد تسلق طريق الآلام هذا قبلك؛ والفرق أنه فعل ذلك من أجلك! تتنهد وتتساءل: أمررتما بكل هذا؟ «رب ارحمهما كما ربياني صغيراً»!
المصدر: الامارات اليوم