كاتب سعودي
الأشرطة السمعية التي تسربت أخيراً، وتضمنت أحاديث خطرة بين أمير قطر السابق الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني و«الهالك» معمر القذافي، لا يمكن أن تمر مرور الكرام على دولة بحجم ومكانة ومكتسبات المملكة العربية السعودية. جل ما دار في الحديث المسجل يشير إلى العمل بكل تخطيط وتصميم على إسقاط حكم آل سعود، وبالتالي تفتيت هذه الوحدة العظيمة، التي أسسها الراحل الملك عبدالعزيز، لذا فتوقعاتي تشير إلى اتخاذ المملكة قريباً إجراءات عملية قد تكون قاسية ضد قطر.
الواقع أن محتويات هذه الأشرطة، وأخيراً وليس آخر، فسّرت لنا كمتابعين، السر في سلوك حكومة الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني منذ أن فاجأتنا قبل عقدين بهرولتها لاستضافة القوات الأميركية التي غادرت قاعدتها في مدينة الخرج السعودية، وقبلت بوجودها في منطقة العديد قرب الدوحة من دون أي شروط. فسّرت لنا مواقف تلك الحكومة السياسية الغامضة حول بعض القضايا العربية الشائكة، ومنها افتتاح مكتب التمثيل التجاري الإسرائيلي في الدوحة، في خطوة أثارت استغراب الأعداء قبل الأصدقاء. فسّرت لنا ما يتردد عن الدعم القطري للحوثيين في اليمن، وتمرد البعض في البحرين، وتخريبهم وأعمالهم الإرهابية ضد مكتسبات البحرين وحكومتها وملكها. فسّرت لنا التحريض الذي تقوده قناة «الجزيرة» والموجه في شكل كبير ضد السعودية منذ تأسيس هذه القناة. كنا في المملكة في حيرة من أمرنا، إذ إن هذه القناة تدار تحت نظر حكومة خليجية حكامها وشعبها من أقرب الناس إلينا وبكل القياسات الدينية والمذهبية والقبلية. لكن مع كل هذا استمر ذهولنا وصمتنا وتغليب حسن النوايا لعقود متعددة ولم نحرك ساكناً، على رغم تمادي هذه القناة للحد الذي وصل إلى الدعم اللوجستي لتنظيم «القاعدة»، واستضافة هذه القناة لأفراد لا قيمة لهم، إلا كونهم ينتقدون المملكة ورموزها في تبريراتهم لعمليات القاعدة. كلنا يعلم بالطبع أن المملكة قضت على هذا التنظيم في الداخل، على رغم قوته وانتشاره في غفلة من المتابعة الدقيقة قبل البدء في ممارسة الإرهاب في مدننا ومؤسساتنا. إذاً فما كان يُعتقد أنه سينجح فشل. على أن من صفات البشر قبول التغيير والتعايش معه عندما يتكرر كثيراً، ولهذا فأخبار وتحليلات «الجزيرة» الموجهة ضد المملكة أصبحت أموراً شبه عادية. نعم، فمع تكرار خطاب هذه القناة تولدت لدينا في المملكة مناعة جديدة ضد النقد بعد أن كنا نشعر بالحساسية المفرطة لأي كلمة نسمعها. ومع تقلص تأثير القناة وظهور قناة «العربية» وتألقها المبهر وصلابة وحدة المملكة كان لا بد من البحث عن وسيلة أخرى، فالجبل لم تهزه الرياح بعد. من دون أن أخوض في التفاصيل الأخرى المملة وصل تصميم الشيخ حمد إلى التحدث مباشرة مع رئيس عربي وجدوا لديه قبول الفكرة. كيف لا وقد تلقى القذافي تلك «التهزئة» المجلجلة في مؤتمر قمة عربية من فم خادم الحرمين الشريفين حفظه الله عقب تطاوله واستهتاره بمواقف المملكة. ولهذا التواصل سبب آخر بالطبع، فالشيخ حمد بن خليفة ووزير خارجيته السابق الشيخ حمد بن جاسم أيضاً يدركان كل الإدراك أنهما لن يجدا فرداً واحداً من أفراد آل سعود قد يقبل بالتعاون معهما ويحقق أهدافهما.
من هنا ففتح الموضوع مع القذافي لم يكن إلا مما لا بد منه. لكن وربما بسبب الاندفاع غير المحسوب لم يخطر ببال «الأشقاء» أن ذلك «الهالك» كان يسجل حديثهم في جهاز تسجيل مخفي في أحد جيوبه التي لا يمكن التنبوء بمكانها، خصوصاً عندما يرتدي الزي البلدي القديم.
خرج التسريب الأول قبل سنتين، وكان حديثاً يقوده الوزير حمد بن جاسم وزير الخارجية آنذاك في جلسة له مع الرئيس الليبي. قلنا إنها «غلطة» وتجاوزت المملكة عنها أو بعبارة أصح حاولت تناسيها. لكن خروج التسريب الأخير الذي دار فيه الحديث بين الشيخ حمد بن خليفة وهو أمير الدولة والقذافي كان «مزلزلاً» في خوضه في التفاصيل لما كان يخطط له. ففي مقتطفات منه كان الشيخ حمد، عفا الله عنه، يكرر أن المملكة والأسرة الحاكمة زائلون في زمن لن يتجاوز 12 عاماً وكان يقسم على ذلك.
لنعلم أن الأداة التي قد تنفذ أي مخطط كهذا لا بد أن تكون سعودية، أي من الداخل. وهنا نتذكر حماسة حكومة قطر في تضخيم «القاعدة» ورموزه السعوديين كما أشرت. قطر عملت أيضاً على استقطاب بعض السعوديين وإغرائهم بالمال بل ومنحهم الجنسية القطرية. كما أنها، أي قطر، حرصت على التقاط بعض «الرجيع» من القوميين العرب المشتبه بتاريخهم «النضالي» أمثال النائب في الكنيست الإسرائيلي عزمي بشارة وغيره ليعاونوها في إدارة ما يسمى بـ«التغيير»، والمقصود بذلك التدريب على قلب أنظمة الحكم. لكن الإطار الأكبر بالطبع لتحقيق هذه الأهداف هو توظيف جماعة «الإخوان المسلمين»، في مصر، خصوصاً بعد فوز مرشحهم محمد مرسي بالرئاسة أم توظيف كوادرها في المملكة ودول الخليج. استخدام «الإخوان المسلمين» يدغدغ مشاعر السذج ممن يعتقد أن هذا الرهط يمثل الإسلام ويطبق الشريعة. لكن من سوء طالع أصحاب هذه الخطة أن المصريين أسقطوا الجماعة، وأن الملك عبدالله كان أول المؤيدين والمهنئين لقائد الجيش المصري المشير عبدالفتاح السيسي الذي لم يتردد في الاستجابة لمطالب شعبه. ليس ذلك وحسب، فقد اضطر الشيخ حمد إلى ضم مصر والإمارات العربية والبحرين إلى قائمته بعد أن سارعوا أيضاً بتأييد سقوط «الإخوان» ودعم مصر مالياً لإنقاذ اقتصادها المنهار، ومما زاد الطين بلة بالنسبة إلى الشيخ أن حكومة أبو ظبي وبعد سقوط جماعة مصر مباشرة تمكنت من اكتشاف وتفكيك خلايا إخوانية في الدولة وأودعت قيادييها السجون بحزم وصرامة لافتين.
إذاً «القاعدة» تم دحره وجماعة «الإخوان المسلمين» تم القضاء عليهم كحزب سياسي، وزادت المملكة ومصر بأن تم تصنيفهما لهذه الجماعة كجماعة إرهابية. من تجنس بالجنسية القطرية أو من تعاطف مع خطاب قطر الإعلامي من أبناء المملكة وذهب إلى هناك لتلقي المحفزات انفضح شأنهم جميعاً، وأصبح المجتمع السعودي ينظر لهم باحتقار. شعبية الملك عبدالله بن عبدالعزيز صارخة يسمعها ويدركها القاصي والداني. المشير السيسي مرشح للفوز برئاسة مصر. المرشد ومرسي ورموز الجماعة يحاكمون علناً وهم وقوف خلف القضبان. الرئيس الأميركي أوباما الذي أيد فوز الإخوان وجد نفسه مضطراً لزيارة والدنا الكبير في مخيمه الشتوي بروضة خريم ليؤكد عمق العلاقات السعودية – الأميركية على رغم ما أصابها من فتور بسبب مواقف إدارته.
اليوم نجد تركيز الإخوة الأشقاء يتجه إلى تعزيز التعاون بين قطر وتركيا وهذا مشكوك في نجاحه. ويتجه أيضاً إلى النيل من دولة الإمارات التي شاركت المملكة والبحرين في قرار سحب السفراء من الدوحة. المراقب اليوم يلحظ جهود الأبواق القطرية في عزل الإمارات والبحرين عن المملكة في محاولة غير موفقة هي الأخرى لإضعاف الموقف، ذلك أن علاقة الود والمحبة بين السعودية والإمارات تحديداً اليوم هي في أقوى أوقاتها.
الخلاصة أن ما قامت به حكومة حمد بن خليفة وما تسرب إلينا من حديث سمعه القاصي والداني يعتبر خطراً جداً ولا يمارسه سوى الأعداء. اليوم وقد تكشفت كل الأوراق، ونفد الصبر، أجزم بأن حكومات المملكة والإمارات ومصر والبحرين ستفرض عقوبات أخرى على قطر بعد أن يتم بناء هذه الحال قانونياً وبكل القرائن المتوافرة على المستويين الإقليمي والدولي. يجب ألا «نقبل» أو «نعتاد» أو نتناسى ونصفح عن مواضيع تصل إلى هذا الحد من التآمر لإلحاق الأذى. نحن لا نتحدث عن تقرير مغرض بثته قناة إخبارية، بل عن خطة عدائية يقوم بها رئيس دولة، وهي لا تقل عن إعلان الحرب. من أهم هذه العقوبات برأيي عزلها، أي قطر، عن دول الخليج تماماً عبر إغلاق الحدود البرية ومنع الطائرات القطرية أو أي طائرة أخرى يشتبه بها من التحليق فوق أجواء المملكة والإمارات. من العقوبات الأخرى إعادة النظر في جميع الاتفاقات التجارية الموقعة بين هذه الدول وقطر، ولعل أبرزها اتفاق السماح لخطوط طيران «المها» القطرية بخدمة النقل الجوي داخل المملكة. ومنها إقناع القوة الفاعلة في المجتمع الدولي بأن هذه الحكومة تمارس مراهقة خطرة قد تتجاوز آثارها أمن واستقرار المنطقة. وقبل كل هذا وذاك التفاهم مع إيران بأن التعاون مع قطر بما قد يضر مصالح دول الخليج يعتبر عدواناً موجهاً من إيران لهذه الدول.
أقول ذلك وأنا مدرك بأن السعودية والإمارات ومصر ربما اقتنعت اليوم وأكثر من أي وقت مضى بأن فرض مثل هذه العقوبات لم يعد مجرد خيار بل واجب فرضته الظروف العدائية الخطرة التي نعيشها بوضوح لا يقبل التشكيك أو التأويل كما أشرت. توقعاتي أن العمل بهذه العقوبات أصبح وشيكاً جداً إلا إذا تمكن الأمير الشاب تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني الأمير الحالي من تصحيح تلك الأوضاع والتوجهات وطرد من بلاده جماعات الغدر والتآمر وهم في الغالب أجانب وبادر بالاعتذار لأهله وعشيرته في الخليج. عندها فقط يمكن طي هذه الصفحة السيئة، وعندها فقط يمكن لقطر العودة لمكانتها والتركيز من جديد على التنمية والتنافس الخلاق واستعادة احترامها الذي يستحقه شعبها الطيب الكريم، هذا الشعب الذي أجزم وبلا تردد ومن معرفتي القريبة به، أنه مستاء بقدر استياء أي مواطن سعودي أو مصري أو إماراتي مما حدث.
المصدر: الحياة