باحث إماراتي
يأتي مصطلح الدولة العميقة للدلالة على مؤسسات في دولة ما، تضاهي في بعض الحالات قوتها قوة الحكومة، بل وتصبح معطلة لقراراتها في بعض الأحيان، مما يجعل الطريق أمام تلك الحكومة في اتجاهين، إما مسايرة الدولة العميقة، وإما الاصطدام بها.
ولعل السؤال الذي من الممكن طرحه هنا هو: هل يصدق ذلك على دولة مثل إيران، في ظل نظامها الجديد الذي يأتي الولي الفقيه على رأس ذلك النظام؟
نسير مع القارئ في هذا المقال لتلمس الداخل الإيراني، لنصل لاحقًا إلى إجابة له.
إنه صيف 2013.. المنافسة محتدمة في إيران. ما الذي يجري؟ هناك احتفالات في شوارع طهران والمدن الكبرى. حسن روحاني يتفوق على منافسيه ليظفر بكرسي الرئاسة. تنهال عليه التبريكات بالفوز، وفي انتظار تنصيبه رسميًا لهذا المنصب. سنوات التخبط الإداري ومواجهة الغرب والشعارات والتصريحات الحادة، وانعكاسها على تردي الوضع الاقتصادي آن الأوان أن تنقضي بعد انتهاء رئاسة أحمدي نجاد. الأمل يحدو الشعب الإيراني للاستبشار خيرًا بالحكومة القادمة، كيف لا فهي حكومة التدبير والأمل.
ولكن مهلاً.
هل شعار المفتاح الذي كان يرفعه روحاني لديه كل الأقفال للقيام بفتحها، أم بعضها وأهمها بيد الغير؟ بيان إيجابي قادم من الداخل الإيراني باتجاه روحاني، فحواه إيجابية؛ فهو يبارك له الفوز ولكن.. بين ثنايا سطوره عبارة «الاستعداد للتعاون بإيجابية مع الحكومة الجديدة». بيان آخر يحمل ذات المعنى قادم من الداخل الإيراني أيضًا. القارئ يتساءل من أصدر تلك البيانات. إنه الجيش النظامي وبيان آخر من الحرس الثوري، وآخر من قوى الأمن الداخلي. يُمعن القارئ من جديد في عبارة «الاستعداد للتعاون بإيجابية مع الحكومة الجديدة». يتساءل هنا أليس في النظم المتعارف عليها أن جميع تلك المؤسسات والوزارات تكون تحت منظومة الحكومة، ويأتي الرئيس بوصفه القائد العام لكل القوى؟
إنها إيران ومؤسساتها العميقة.
يبدأ روحاني فترة رئاسته الأولى وهو على يقين بأنه أمام طريقين إما الصدام وإما المسايرة. الصدام لن يأتي بنتيجة، ولكن في الوقت ذاته من الصعوبة المسايرة المطلقة، فوعود البرنامج الانتخابي ستظل معيارًا لمدى مصداقية هذه الحكومة. روحاني ينتهج أسلوب الرسائل غير المباشرة. في أوائل تصريحاته يثني على دور الحرس الثوري، ويدعوه للاستمرار في المجال الاقتصادي والاستفادة من خبراته. هل هذا الأمر في المطلق؟ يؤطِّره روحاني بقوله: «الحرس الثوري ليس منافسًا للشعب أو القطاع الخاص، وهو ليس مقاولاً مثل أي مقاول عادي آخر.. ينبغي على (الحرس الثوري) أن يتولى مشاريع كبيرة لا يستطيع القطاع الخاص التعامل معها».
وماذا عن الشأن السياسي؟ بأسلوب منمق يدعو إلى تجنب الخوض في هذا المجال. لماذا؟ لأن قوات حرس الثورة الإسلامية «أرقى وأبعد من الأحداث السياسية ولا تجاريها أو تتدخل فيها». الرد يأتي سريعًا من قبل قائد الحرس الثوري محمد جعفري: «يمكن للحرس الثوري، وفي إطار دوره في حماية الثورة، أن يوجه تنبيهات إلى الحكومة، وهذا ليس معناه معارضة الحكومة، وأن الحرس الثوري لا يستطيع التعاون مع الحكومات».
يبدو أن الرسالة واضحة. لعلها ليست كذلك عند روحاني، وربما لم تتضح بعد أبعاد الدولة العميقة. أعلى هرم السلطة يعطي صورة أكثر وضوحًا تؤكد دور الدولة العميقة وحضورها. يقول المرشد الإيراني: «ليس من الضروري أن ينخرط الحرس في المجال السياسي لكي يحرس عليه، لكنه يجب أن يكون على دراية به وبتطوراته». بمعنى أنه سيكون حاضرًا.
الدولة العميقة لا تزال حاضرة وروحاني باتجاه تنفيذ وعوده الانتخابية. يقلب هذا الأخير تلك الوعود. يظهر من بينها الوعد برفع الإقامة الجبرية عن موسوي وكروبي. خلال محاضرة لروحاني في إحدى الجامعات، تُرفع لافتة مذكرة روحاني بوعده في هذا الشأن. إنه 2015 ولا تزال الإقامة الجبرية حاضرة. لماذا؟ الدولة العميقة لها كلمتها، وتعلن مرارًا أن هذا الأمر غير ممكن، حتى إعلان رؤوس الفتنة كما يطلقون عليهما، التوبة والاعتراف.
للدولة العميقة جوانب أخرى غير المؤسسة العسكرية. ما هي يا ترى؟ يمكن تتبع ذلك من خلال الزيارات المتلاحقة لمساعدي الرئيس الإيراني لمحافظة «قم» لمعرفة مدى دور المؤسسة الدينية في الدولة العميقة وتأثيرها على روحاني وحكومته. التشاور مع كبار رجال الدين وزيارتهم وإطلاعهم على آخر المستجدات الداخلية والخارجية بات عُرفًا لا يمكن تجاوزه، فإما الثناء، وبالتالي توظيف ذلك كورقة رابحة، وإما انتقاد يتطلب معه اتخاذ خطوات لكسب التأييد من جديد. لا تزال لهذه المؤسسة مواقفها المتشددة من خطوات روحاني وحكومته في المجالات الثقافية والحريات، الأمر الذي يتجلى في استمرار الممارسات العنيفة تجاه ظاهرة الحجاب السيئ من قبل من يعرفون بالمؤسسة الثقافية لأنصار حزب.
روحاني يحاول الحدّ من تلك الممارسات غير أن تصريحات روحاني في حدّ ذاتها تتجلى فيها مدى تأثير الدولة العميقة وتحركها خارج الإطار الحكومي. يقول: «ليس من حق قوى الأمن تطبيق الدين، لأنه خارج عن نطاق عملها ومهامها. إن مهمة قوى الأمن هو تطبيق القانون الذي تنص عليه قرارات الحكومة فقط. ولا يمكن استقطاب الناس إلى الجنة بالضرب والضغط بالسياط». الدولة العميقة ردها حاضر، حيث ترى أن السياط هو شيء بسيط في وجه من ينوون منع الناس من الذهاب إلى الجنة». المرشد يدعم الدولة العميقة في مواجهة الحكومة، ويعتبر إرشاد الناس وهدايتهم واجبًا للوصول بهم إلى الجنة.
وماذا عن حكومة روحاني في مقابل الدولة العميقة في المجال الثقافي والحريات؟ يختزل روحاني ذلك بقوله إن هناك العديد من المسائل والمجالات لا يقتصر عليها الأمر في نطاق الحكومة، وإنما تتداخل معها وتتقاطع مؤسسات أخرى.
وبالتالي يمكن القول إن نظام الحكم والسلطة في إيران بعد الثورة قد خلق معه إلى جانب الحكومة مؤسسات أخرى، يأتي بعضها وفق صلاحياتها من القوة ما تجعل الحكومة هي الحلقة الأضعف في تلك المنظومة. ولعل المتتبع للساحة الإيرانية حاليًا يدرك استمرار ذلك التنافس وربما الصراع بين حكومة روحاني والدولة العميقة وآخرها مطالبة روحاني بالحد من تدخل مجلس صيانة الدستور في الانتخابات فجاءت مؤسسات الدولة العميقة يشد بعضها بعضا، ووجهت الانتقادات لروحاني ليس من مجلس صيانة الدستور، وإنما من الحرس الثوري وغيره وهو أمر مرشح للاستمرار.
وماذا عن حكومة روحاني والدولة العميقة في السياسة الخارجية؟
سنجلي ذلك في مقالنا القادم.
المصدر: الشرق الأوسط