كاتب سعودي
الابتعاث أهم إنجاز حكومي خلال السنوات الأخيرة، هو المشروع الوحيد الذي لم تتبعثر ملياراته في الهواء الطلق، فقد أطلقت العديد من المشاريع التنموية العملاقة للاستفادة من الارتفاع الكبير في أسعار النفط شملت كل القطاعات الحيوية؛ مثل الصحة والإسكان والنقل والاستثمار الصناعي وغير ذلك، ولكن المواطن لم يلمس أثرها حتى اليوم، حيث يصعب أن تجد مواطنا تعالج في المستشفيات التي أعلن عن إنشائها، أو آخر سكن في واحد من البيوت التي أعلن عن قرب توزيعها، ولكنك يمكن أن تجد عشرات الآلاف ممن استفادوا من برنامج الابتعاث، ورغم ذلك، فإن بعض المشايخ ــ جزاهم الله خيرا ــ لم يشعروا يوما بالقلق من هذه المشاريع المتعثرة، بل ذهبوا أكثر من مرة للديوان الملكي للتحذير من خطر المشروع الناجح (الابتعاث)!.
يرى المتحمسون في وفد المشايخ أن المبتعثين من الجنسين يمكن أن ينقلبوا على أعقابهم ويتركوا تعاليم دينهم لمجرد تواجدهم سنوات في جامعة في الولايات المتحدة أو اليابان أو استراليا، فهل قيمنا الدينية هشة إلى درجة أن ما نغرسه منها في صدور الشباب لمدة عشرين عاما يمكن أن يطير في عامين أو ثلاثة؟، أم أن التكتيك المفضل للمعلم التقليدي القديم هو أن يغلق الباب على تلامذته كي لا يعرفوا شيئا آخر ويقارنوا بين ما يقوله وحقيقة الأمر خارج الفصل؟!.
لا أعلم حقا كيف يستهين هؤلاء المشايخ بعقول المبتعثين والمبتعثات الذين حصل العديد منهم على جوائز عالمية، وحظي قسم منهم على تكريم معلن من الجامعات التي يدرسون بها بسبب اكتشافاتهم وأبحاثهم العلمية المتميزة، كيف يظن أي شخص في وفد المحتجين هنا أنه يملك عقلا يفكر أفضل من عقل باحث أو باحثة في المعمل هناك؟، تحت أي حسبة منطقية يكون هذا الدماغ أفضل من ذلك الدماغ، وبالتالي يحق له توجيهه وحمايته من الأخطار الخارجية؟!.
وما دام هذا الموقف ضد الابتعاث يتخذ شعار الغيرة على الإسلام، فلتكن هذه الغيرة حقيقية وإيجابية، فنحن نعيش في عالم تحكمه التكنولوجيا، ولن يكون للمسلمين قيمة تذكر ما داموا بعيدين عن العلوم الحديثة التي تسيطر عليها هذه الأمم في الغرب والشرق، وقوة المسلمين وتطورهم قوة للإسلام، وبالتأكيد سوف يكون واقعنا مختلفا إذا ما نجحنا في نقل العلم والخبرات عن طريق هؤلاء المبتعثين ووفرنا لهم البيئة المناسبة للعمل والإبداع، على الأقل حين تواجهنا مشكلة في المستقبل يمكننا أن نشكل فريقا علميا للبحث عن حلول لها، بدلا من تشكيل وفد للاحتجاج والاحتساب!.
أخيرا.. لدي أمنية صادقة وفيها فائدة لجميع الأطراف.. وهي أن يتم تسجيل جميع المحتسبين المحتجين في برنامج الابتعاث، بحيث يتم توزيعهم على دول العالم كي يتأكدوا بأنفسهم من حقيقة الأخطار التي يتحدثون عنها، وهكذا يبقى كل واحد منهم أربع أو خمس سنوات في كندا أو كوريا الجنوبية أو فرنسا أو أي دولة من دول الابتعاث يطلب العلم، فإن عاد إلى قومه بعلم نافع ــ وهو البعيد بإذن الله عن كل زلل ــ واستفاد فوق ذلك بعض الخبرات المهمة في احترام الأنظمة والقوانين، فسوف يتأكد بنفسه أن إيجابيات برنامج الابتعاث أكثر من سلبياته المزعومة، أما إذا ترك طلب العلم وأهمل الأمانة التي حملها باسم الوطن واتخذ اتجاها آخر، فإن المشكلة في الأساس الهش الذي ظنه متينا، ولكنه سرعان ما تهاوى أمام أول صدمة حضارية، وهنا لا يكون العلاج بإلغاء برنامج الابتعاث، بل في تحسين الأساس الهش كي يكون منفتحا على العالم ولا يتشبث كثيرا بنظرية إغلاق العيون كي لا ترى ما يحدث في هذا العالم!.
المصدر: عكاظ