كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية
بين يدي كتاب رائع، ولكن شهادتي فيه مجروحة، فهو ” رائع ” إذا كنت من أهالي المدينة المنورة أو باحث في الحياة الاجتماعية في المدينة في زمن ما قبل النفط وطفراته التي غيرت شكل الوطن وناسه، الكتاب” شخصيات مميزة في مجتمع المدينة المنورة في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري ” عنوان طويل وغير جذاب، ولو كنت مؤلفه الاستاذ محمد صالح عسيلان، لسميته ” وجوه مدنية في زمن سعيد” نعم كانت أيام سعيدة يحن إليها جيلنا، رغم صعوبات ذلك الزمان وقلة الخدمات والمال فيه.
الكتاب في جزئين، جمع سير وذكريات ووثائق من شهادات وخطابات بخط اليد عن شخصيات عامة شكلت الحياة الاجتماعية في المدينة قديما، ممن تركوا أثرا في الحياة من تجار وأدباء وأطباء ومعلمين وحرفيين، عندما تنتقل بين صفحاته تتشكل لدى القارئ صورة للحياة الاجتماعية في مدينة مترابطة ولكن تمر بعاصفة من تحولات غير مسبوقة فرضتها الحداثة والنهضة وحركة العمران، قصة رائعة عن أب “عابدين ملا”، يعمل كطبيب شعبي وجراح اكتسب خبرته أو ورثها من غيره وليس من جامعة، لكن ابنه أحمد درس الطب في مصر والولايات المتحدة وعاد إلى المدينة المنورة كأول طبيب جراح محترف.
تجد بين صفحات الكتاب تحولات في نمط التفكير، تقودها شخصيات، وتمانع أخرى، أتخيل حوار كان يجري حولها في مجالس كانت أشبه بالأندية تعقد في كل ليلة بعد صلاة العشاء في بيوت بعض الوجهاء، ولا زال بعضها عالق في الذاكرة من زمن الطفولة، فأذكر مجلس الفقيه والأديب محمد كردي “وبين عائلاتينا رحم وقرابة “، فكان مجلس علم ودين ما بين المغرب والعشاء، وبعد العشاء يصبح مجلس أدب وطرب جميل.
في الكتاب وثيقة رائعة، بخط يد معتمد التعليم في المدينة ” أي مدير التعليم باصطلاح اليوم”، محمد سعيد دفتردار، وهو خال والدتي وقد التقيته مرات واستمعت له لذا أتذكره جيدا، الوثيقة رسالة شخصية وجهها لابنته رفيدة، وكانت قد أنهت الثانوية وقد تقدم لها عريس وفي نفس الوقت حصلت على بعثة للباكستان لدراسة الطب، كان ذلك عام 1970 أي قبل أكثر من أربعين عاما، في عرف ذلك الزمان كان الاختيار واضحا جليا ” البنت تكفيها الثانوية … تتزوج طبعا ” ولكن لم يكن هذا رأي المعتمد، الذي يعد أب التعليم الحديث في المدينة المنورة فكتب لأبنته خطابا في صفحتين قال فيه ” عزيزتي الأنسة رفيدة، تقبلي تحيات والدك وأنصتي لنصيحته التي أملاها علي حبك واعتزازي بك وتقديري لذكائك الذي تقدم بك إلى مصاف الأوائل ” أما نصيحته فكانت ” لماذا تحرمين جيلك من خدماتك وتسارعين في الزواج والزواج ممكن لك في أي وقت وفي متناول يدك متى شئت فلا تستعجلينه وأنت لا تزالين صغيرة، أتظنين الزواج راحة الأجسام ومتعة النفوس، لا يا عزيزتي، ما وراء الزواج إلا تمليك نفسك لفتى لا يعاشرك إلا حبا في اللذة، اللذة التي تحملين أتعابها في الحمل الولادة وما وراء ذلك من متطلبات الرجل وتربية الأطفال وعنائهم وضوضائهم ” أعجبتني صراحته رحمه الله، ولكنه ليس ضد الزواج بل يدعوها لإكمال تعليمها أولا، وحينها ” ستكونين سيدة نفسك ومالكة لقدرك يترامى عليك الفتيان المثقفون الأثرياء تختارين أنت ما يروق لك منهم”.
أعتقد أنها نصيحة متقدمة حتى في زماننا، على كل حال أخذت الشابة رفيدة بنصيحة والدها وأنهت تعليمها وتعمل الآن رئيسة قسم الكيمياء الحيوية بمستشفى القوات المسلحة بالرياض.
المصدر: مجلة روتانا