اختار معرض الكتاب بأبوظبي أن يكون الفقيه الفيلسوف ابن رشد الشخصية المحورية في ندواته المصاحبة للمعرض. هكذا علمت من الدكتور علي بن تميم، المشرف على أنشطة المعرض وأشياء كثيرة أخرى جعلت من أبوظبي وهيئة الشيخ زايد للثقافة والفنون منبرًا رفيعًا للعطاء الثقافي، العطاء الذي لم يكن ليتأتى لولا الدعم السخي من حكومة أبوظبي بقيادة ولي عهد الإمارات الشيخ محمد بن زايد. واختيار رائد العقلانية في الموروث العربي الإسلامي، أبو الوليد بن رشد، شخصية للتحاور حول عطائها في معرض يضج بالثقافة، جاء مؤشرًا على توجه جميل للعناية بالعمل الثقافي المستنير، التوجه الذي أتمنى ومعي كثيرون أن يكون محل رعاية في كل مكان من وطننا العربي، الجزيرة العربية منه بشكل خاص، فليس غير دعم العقلانية والانفتاح على الثقافة المستنيرة بأجنحتها المختلفة من فكر فنون وآداب مخرجًا يعيد التوازن إلى حياتنا التي ابتليت بأمراض التشدد والانغلاق فانتشرت في أرجائها أمراض الإرهاب وألوان الإعاقة التنموية.
لقد سعدت بأن أشارك في الاحتفاء بفيلسوف إشبيلية وقاضيها الكبير مقدرًا تلك الفرصة لطرح بعض الأفكار التي كنت أعمل على تطويرها ضمن مشروع بحثي ما زال في طور النمو. وكان من جميل الصدف أن يطلب مني الحديث في نفس المسألة التي شغلتني في حياة ابن رشد وأعماله، أعني المسألة التي اشتهرت بنكبة ابن رشد أو محنته. ولكن على عكس الشائع في تناول تلك المسألة أو الجانب، لم أعن كثيرًا بتحويل نكبة ابن رشد إلى مناسبة للتأسي على اندثار العقلانية العربية الإسلامية، ليس تقليلاً من ذلك الاندثار الفاجع والذي حدث فعلاً فيما بعد، وإنما لأن لدينا ما يكفي من التفجع وليس لدينا ما يكفي من النظر المحلل، على الأقل على مستوى التناول الشائع لابن رشد. ومن هنا أعجبت كثيرًا بأن واضعي برنامج المهرجان نظروا إلى معاناة ابن رشد من زاوية أشمل بكثير حين وضعوا عنوانًا جانبيا للندوة هو «محنة المثقف».
أكاد أجزم أن ابن رشد ليس من الأسماء المألوفة في مناهجنا التعليمية العربية السعودية بشكل خاص، ولا من الأسماء التي تلقى حفاوة حين نستعيد الكثير منها من التراث لنعرف به الشوارع والميادين أو المؤسسات، وذلك لسببين: إما الجهل به وأهميته، أو نتيجة لمعرفته على النحو الذي يفضي إلى رفضه ورفض فكره ونزعته العقلانية. ومن هنا كان على الكثير منا أن ينتظر حتى يشب عن طوق التعليم، أوله وآخره، ليكتشف اسما كابن رشد أو الفارابي أو غيرهما ممن احتفت بهم ثقافات الآخر بل ونهضت على منجزاتهم في حين جهلناهم وتخلينا عنهم حين عرفناهم.
حديثي عن ابن رشد تناول، كما يتضح من العنوان الجانبي، ما واجهه الفقيه الفيلسوف من محنة تناولها التاريخ والفكر المعاصران بكثير من الرصد والتحليل، ولعل المفكر المغربي محمد عابد الجابري يأتي في الطليعة بين الذين عنوا بذلك المفكر الكبير سواء في عطائه الفلسفي أو في المحنة التي مر بها والتي يسميها الجابري نكبة وليس محنة فقط، تشديدًا على فظاعة ما جرى لابن رشد حين غضب عليه الحاكم الموحدي أبو يعقوب يوسف بعد أن قربه وعينه قاضيًا للقضاة وجليسًا مقدمًا على غيره. ولكن النكبة المشار إليها لم تكن نتيجة انقلاب في الموقف السياسي فحسب وإنما كانت أيضًا وربما في المقام الأول نتيجة موقف شعبوي عبئت به العامة تجاه مفكر رأوا لديه مروقًا على الدين والتراث نتيجة لمسعاه في تقريب الشريعة من الفلسفة أو الحكمة وانتصاره للعقل والعقلانية، كما عرفت في ذلك الحين. وتمثلت النكبة في فصل ابن رشد من منصبه وطرده من إشبيلية وإحراق كتبه أمام الناس.
ولأن هذا كله من معروف التاريخ، أي لا جديد في استرجاعه، سعيت في محاضرتي عن ابن رشد، التي كانت، كما ذكرت، عرضًا لجزء من مشروع بحثي في طور الإنجاز، أن أتوقف عند بعض النماذج النصية من كتابات ابن رشد يتضح فيها حجم القلق الذي كان ينتاب المفكر العربي القديم في مواجهته للسلطة بمختلف أشكالها، أي السلطة السياسية والثقافية والمجتمعية، الجانب الديني بشكل خاص. تلك النصوص يصعب عرضها كاملة هنا، لكني سأمثل لها بإجابة ابن رشد على سؤال وجهه إليه أبو يعقوب يوسف حول السماء أهي قديمة أم حادثة؟ وتلك مسألة تتصل بقدم العالم، الموضوع البالغ الحساسية والشائعة آنذاك، وكان ابن رشد يدرك أنه بإجابته يمشي على صراط حاد وكثير المزالق. لكن قبل ذكر الإجابة يحسن أن نعرف الظروف التي أحاطت بطرح السؤال. ينقل محمد عمارة، محرر كتاب ابن رشد «فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من الاتصال» عن أحد تلامذة الفيلسوف ما يلي:
«لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب وجدته هو وأبو بكر بن طفيل ليس
معهما غيرهما» ثم يحكي كيف سأله السلطان عن رأي الفلاسفة في السماء،
أقديمة هي أم حادثة؟ وكيف تحرج ابن رشد من ذكر رأيهم في ذلك، ثم كيف
اطمأن عندما سمع كلام السلطان في ذلك».
ما سمعه ابن رشد هو ما استدل منه أن السلطان كان عارفًا بالفلسفة اليونانية، فجاءت إجابته على ذلك الأساس:
«العلم القديم [أي علم الله] إنما يتعلق [بالموجودات] على صفة غير الصفة
التي يتعلق بها العلم المحدث، لا أنه غير متعلق أصلاً، كما حكي عن
الفلاسفة أنهم يقولون، لموضع هذا الشك، أنه، سبحانه، لا يعلم الجزئيات،
وليس الأمر كما توهم عليه، بل يرون أنه لا يعلم الجزئيات بالعلم المحدث
الذي من شرطه الحدوث بحدوثها، إذ كان علة لها، لا معلولاً عنها، كالحال
في العلم الحديث».
بتعبير آخر، علم الله ممتد على الموجودات، قبل حدوثها وبعد حدوثها، لكن علم الإنسان، المبني على حدوث الأشياء، وهو علم محدود، يختلف عن علم الله من هذه الناحية، أي أن الله سبحانه عالم بالأشياء بعد حدوثها ولكن بطريقة تختلف عن علم الإنسان بها.
تلك بالتأكيد صورة من صور المحن التي يبتلى بها المثقف في كل مكان وكل عصر. التاريخ الثقافي العربي الإسلامي زاخر بأمثلة كتلك، لا سيما في أوساط من ابتلوا بحرفة الفكر أو الأدب كابن المقفع والتوحيدي وابن خلدون وفي عصرنا الحديث طه حسين وغيرهم وغيرهم. لكن المهم ليس سرد القوائم أو ذكر تفاصيل الحوادث وإنما الوقوف على تفاصيل الممارسة بآلياتها وتقنياتها حسب الفيلسوف الفرنسي ميشال فوكو، الذي كرس مجمل أعماله لهذا الجانب من التاريخ الثقافي، وذلك موضوع يتسع فيه القول مجددًا.
المصدر: الشرق الأوسط