كاتب وإعلامي من دولة الإمارات العربية المتحدة
صدمتني نتائج الدراسة التي أجراها أستاذ أصول التربية بجامعة الكويت، الدكتور علي عطفة، على عدد من طلاب وطالبات كليات الشريعة والتربية والآداب والعلوم والهندسة بالجامعة، ونشرتها جريدة «القبس» الكويتية الأسبوع الماضي.
لم يصدمني أن طلبة الجامعة لديهم شعور كبير بالخوف والقلق على الهوية الوطنية، فهذا أمر طبيعي، ولكن صدمني أن طلبة كلية الشريعة هم الأقل شعوراً بالانتماء الوطني مقارنة بزملائهم من بقية الكليات، مثلما بيّنت النتائج، حيث يتأثرون بطبيعة الدراسة في الكلية، وتكون الولاءات لديهم دينية على الأغلب، كما أن النزعة الطائفية تبرز لديهم بشكل أكبر! الدراسة أظهرت أيضاً أن شريحة كبيرة من الطلبة تعتقد أن الولاء للطائفة أو القبيلة يعزز الولاء للدولة، وهذا يدل على وضع كارثي في مستوى الوعي بمقومات المواطنة وركائز الوحدة الوطنية لدى الطلبة، كما يعلق الباحث.
لا أعلم إلى أي مدى يمكن اعتبار دراسة مثل هذه معياراً، لكنها تعطي دون شك مؤشرات من الحكمة أن نأخذ بها، فلا أعتقد أن الباحث قد انحاز إلى فئة من الطلبة أو تحامل على فئة، بدليل أنه لفت إلى أن هناك ضعفاً كبيراً في المقررات الجامعية والنشاطات الوطنية، فضلاً عن وجود بعض النشاطات التي تأخذ طابعاً طائفياً وقبلياً، لتجعل من الولاءات الصغرى محراباً يغيّب الطلبة عن مقام الوطن والتضحية من أجله.
كما حدد الباحث العناصر التي تهدد الوحدة الوطنية والهوية في رأي الطلبة، لذلك أثارت استغرابي طبيعة الولاءات عند طلبة كلية الشريعة، والنزعة الطائفية التي برزت لديهم بشكل أكبر من طلبة الكليات الأخرى، في حين يُفتَرض أن يكونوا هم الأكثر شعوراً بالانتماء الوطني، والأقل حماساً للطائفية، مستلهمين ذلك من حب الرسول، صلى الله عليه وسلم، لوطنه الأول مكة المكرمة، التي قال وهو يغادرها مهاجراً إلى المدينة المنورة، بعد أن أمره ربه بذلك: «والله إنك لأحب البلاد إلى الله، وأحب البلاد إليّ، ولولا أن قومك أخرجوني منك ما خرجت».
وكذلك حبه للمدينة المنورة، فقد كان صلى الله عليه وسلم حين يرى أصحابه المهاجرين يستعيدون ذكريات صباهم في وطنهم الأول مكة، يرفع يديه ويدعو ربه قائلاً: «اللهم حبب إلينا المدينة كحب مكة أو أشد».
وفي هذا رد على من يقول إن العقيدة هي التي ترسم حدود الوطن وليس الجغرافيا، لذلك كان الهجوم كبيراً على مرشد عام جماعة الإخوان المسلمين السابق محمد مهدي عاكف، عندما قال إنه يفضل أن يحكم مصر مسلم من ماليزيا على أن يحكمها مصري قبطي، ثم رده الشهير على الصحافي المصري سعيد شعيب عندما سأله عن ذلك، في مقابلة نشرتها مجلة «روز اليوسف» المصرية، فقال: «طز في مصر.. وأبو مصر.. واللي في مصر»!
في روايته الثالثة «فئران أمي حصة»، يحاول الروائي الكويتي سعود السنعوسي، الحاصل على جائزة «بوكر» العربية عن روايته الثانية «ساق البامبو» عام 2013، أن ينفذ إلى عمق المسألة الطائفية، وذلك من خلال خطين من السرد، أطلق على الخط الأول «يحدث الآن»، وعلى الخط الثاني «إرث النار».
ومن خلال «إرث النار» التي تبدأ أحداثها عام 1985 يفسر الكاتب بشكل ضمني ما «يحدث الآن» في الزمن الافتراضي الذي حدده بعام 2020، مقدماً صورة بشعة لما يمكن أن تؤول إليه الطائفية التي غزت بلداننا العربية والإسلامية خلال السنوات الأخيرة، واكتسحت دولاً عربية كبرى، كنا نعدّها قلاعاً منيعة يصعب اختراقها، لكنها تهاوت تحت مطرقتها، وتحولت شعوبها إلى قوى وميليشيات تتقاتل من أجل بسط النفوذ والسيطرة، بينما يصارع بعضها من أجل البقاء، ويتعرض للقتل والتشريد والتهجير والإبادة، في ظل غياب دولة مركزية متجردة من النزعة الطائفية البغيضة.
وبهذه الطريقة خُرِّبت أوطان، وأبيدت شعوب، وتحولت مدن، كانت ذات يوم حواضر ومراكز للعلوم والآداب والفنون، إلى أطلال وخرائب، تشتعل فيها النيران، وتعيث فيها الفئران، وتنتشر فيها تبّاعة الجيف.
تنتهي «فئران أمي حصة» في الزمن الافتراضي باشتباك يقع بين مجموعتين من الشباب، تعلو فيه صيحات طائفية أصبحت مألوفة لنا هذه الأيام، فيتدخل لفكه صديقا الطفولة «فهد صالح آل بن يعقوب» و«صادق عباس عبد النبي»، العضوان المؤسسان في مجموعة «أولاد فؤادة» المناهضة للطائفية، والتي شعارها «الفئران آتية.. احموا أنفسكم من الطاعون»، المستعار من العبارة التي كانت ترددها فؤادة عبد العزيز، نزيلة مستشفى الطب النفسي في المسلسل التلفزيوني الشهير «على الدنيا السلام» من بطولة سعاد عبدالله وحياة الفهد، حيث تظهر فؤادة، مدرِّسة التاريخ السابقة، في المسلسل وهي تسير في ممرات المستشفى، تطوق مصيدة فئران برتقالية اللون بذراعها، مرددة هذه العبارة.
يتدخل فهد وصادق لفك الاشتباك، لكن «إرث النار» الممتد عبر أربعة عشر قرناً من الخلاف بين الطائفتين يطل بوجهه البغيض، فيبرز وجها والديهما الجارين اللدودين صالح وعباس، ويتحول الصديقان إلى جزء من الاشتباك، فيهوي فهد بحجر على رأس صادق، ليقع مضرجاً في دمائه، وعندما يدرك فهد ما فعله بصديق عمره؛ شقيق زوجته حوراء وخال ولديه، يركض نحو الشارع وهو يشتم نفسه، لتطيح به سيارة مسرعة، وينتهي المشهد بما بدأ به البشر صراعهم، كأني بالكاتب يعيد تصوير المعركة الأولى في تاريخ البشرية، حيث يقتل الأخ أخاه، ولكن بصورة تناسب واقعنا المؤلم، وكأني بها دعوة للمسارعة إلى اجتثاث هذا الإرث المجنون من حياتنا، كي نوقف زحف الفئران، لنحمي أنفسنا من الطاعون.
المصدر: البيان