”العرب وتحديدا أثرياء الخليج دخلوا هذه السوق متأخرين بعض الشيء مقارنة بالصينيين لكنهم الآن يستثمرون بقوة وخلال الفترة الماضية تركوا بصمة واضحة في السوق”.. هذا ما أكده مارك روس أحد أبرز تجار اللوحات الفنية في لندن.
وتقول مارلين هيث أحد الوسطاء في مجال العقارات: ”لا أستطيع أن أقول إن نمط استثمار أثرياء الخليج في بريطانيا قد تغير، فأغلبهم ما زال يفضل الاستثمار في العقارات، سواء بشراء شقة أو فيلا ، أو في أسهم لشركات ناجحة، لكن ما أستطيع أن أؤكده لك أن ثمة أعدادا متزايدة تتجه حاليا للاستثمار في سوق اللوحات الفنية”.
وقالت لـ ”الاقتصادية” إنها تتعامل مع أثرياء الخليج منذ أكثر من ربع قرن، ”لم يعودوا محصورين كما كان الأمر في الماضي في سوق العقارات أو المجوهرات والحلي. الآن يتجهون بقوة للوحات الفنية باهظة الثمن، يمكنك أن تلاحظ ذلك خلال زيارة منازلهم في لندن”.
الاستثمار في سوق اللوحات الفنية ظاهرة اقتصادية جديدة تبرز لدى المستثمر الخليجي في أوروبا وتحديدا في لندن. ويقدر الاقتصادي كلار ماك أندرو في دراسة له عن حجم سوق بيع وشراء اللوحات الفنية حول العالم، أن القيمة الإجمالية لتعاملات هذه السوق بلغت عام 2011 قرابة 46.1 مليار جنيه استرليني (نحو 60.8 مليار دولار).
وهذه أرقام تعني أن سوق اللوحات الفنية في العالم يبلغ نحو 12/1 من ميزانية الدفاع الأمريكية التي بلغت عام 2011 نحو 739.3 مليار دولار.
وينقسم مبلغ الـ 60 مليار دولار لسوق اللوحات مناصفة بين دار المزادات من جانب وصالات العرض التجارية من جانب آخر. وخلال عام 2011 بلغت مبيعات صالة المزادات العالمية ”سوذبي” في لندن ومنافستها اللدود دار المزادات ”كريستيز” ومقرها أيضا لندن نحو 5.7 مليار دولار، أي نحو 35 في المائة من إجمالي مبيعات دار المزادات في العالم.
لكن إلى أي الدول تتجه بوصلة أثرياء الخليج للاستثمار في مجال اللوحات الفنية؟ يؤكد لـ ”الاقتصادية” هادلي بول المسؤول في إحدى أكبر صالات العرض التجارية للوحات الفنية في لندن أن بوصلة المعنيين باقتناء اللوحات الفنية، سواء لأهداف تجارية أو شخصية يتجهون إلى بريطانيا أو أمريكا”.
وقال: ”إن العرب يفضلون بريطانيا على غيرها لأسباب شخصية، فالعرب خبروا هذه الدولة أكثر من أي دولة أوروبية، لكن بالتأكيد هناك أسباب موضوعية لذلك”.
وأوضح لـ ”الاقتصادية” جراهام نيل أستاذ الفنون الجميلة الأسباب الموضوعية لاختيار المستثمرين العرب لهذا البلد: ” المملكة المتحدة تحتكر بمفردها قرابة 29 في المائة من السوق العالمية للوحات الفنية والتحف، لتكون بذلك ثاني أكبر سوق في العالم بعد الولايات المتحدة التي تحتكر 30 في المائة من السوق العالمي”.
وأضاف أيضا أن لندن ”سوق تنافسية تعتمد على تجارة عابرة للحدود، ما يخلق تنوعا كبيرا في نوعية وماهية اللوحات المعروضة والمتاحة للبيع والشراء، وهذا يجعل السوق هنا قادرة على إشباع الرغبات والقدرات المالية لكل المستثمرين”.
وقال إن لندن في عام 2009 استوردت لوحات فنية بنحو ملياري جنيه استرليني، وصدرت ما قيمته 2.2 جنيه استرليني.
ولا يقف الأمر عند ضخامة السوق وتنوعها كعامل جذب للخليجيين، واعتبر وايز مارك المسؤول في إحدى صالات العرض المحلية في كينت أنه يعول أكثر على تراكم الخبرات لدى البريطانيين في هذا النوع من الأعمال التجارية. ”الأمر لا يقف على عدد اللوحات المتوافرة في السوق البريطانية فحسب، فربما يكون ذلك أحيانا عاملا سلبيا إذا كان هناك غش تجاري أو خداع للزبائن”.
وتابع لـ ”الاقتصادية”: ”علينا تذكر أن أغلب المستثمرين في مجال بيع وشراء اللوحات هم رجال أعمال وليسوا رسامين أو خبراء في هذا المجال، إنهم يرغبون في شراء اللوحات لبيعها لاحقا وتحقيق أرباح، وهنا لابد من توافر خبراء يمكن الثقة بهم ليرشدوا المستثمرين، وهذا متوافر بقوة لدينا هنا في بريطانيا”.
وأضاف أن بريطانيا تحتوي على 10 آلاف وكالة فنية، ومتوسط عدد العاملين في كل واحدة نحو 20 شخصا، ”هذا عدد صغير من العاملين، لذلك لابد أن يتصفوا بدرجة عالية من الكفاءة والخبرة”.
وقال إن التجار ودور المزادات ينفقون نحو 1.3 مليار جنيه استرليني سنويا لدعم الخدمات المساعدة لإنعاش هذه التجارة كالدعاية والإعلان، ”وبذلك أوجدوا نحو 66000 وظيفة عمل سنويا ويعزو مارك روس، أحد المتاجرين في بيع وشراء اللوحات الفنية، ملاءمة السوق البريطانية للخليجيين أكثر من الأسواق الأوروبية الأخرى، إلى القدرات المالية المتاحة للخليجيين ومنطق تفكيرهم الاستثماري.
وقال لـ ”الاقتصادية” : ”إن رجال الأعمال الخليجيين من اللاعبين الكبار، وثرواتهم المالية تسمح لهم بالمضاربة على اللوحات باهظة الثمن إنهم يفضلون اقتناء لوحات تتجاوز أسعارها مليونين أو ثلاثة ملايين استرليني، وهذا تحديدا ما يدفعهم للتركيز على لندن”.
وأضاف أن متوسط أسعار اللوحات والتحف الفنية خلال الفترة من 2002 إلى 2009 في مزادات فرنسا كان أقل من بريطانيا بـ 24 في المائة، و26 في المائة في إيطاليا و12 في المائة في ألمانيا، وفي عام 2009 كان متوسط أسعار لندن أربعة أضعاف ونصف أسعار اللوحات الفنية المتاحة في بلدان الاتحاد الأوروبي.
وتابع: ”هذا يعني باختصار أن اللوحات الفنية التي تباع لدينا سواء في المزادات أو صالات العرض التجاري باهظة الثمن مقارنة بأي دولة أوروبية، ومن ثم فإن القادرين على دفع ثمنها واقتنائها لا بد أن يكونوا رجال أعمال أو مستثمرين شديدي الثراء، وهذا ينطبق على الخليجيين المتعاملين معنا في هذا المجال. إن ثرواتهم هي التي تجذبهم إلى بريطانيا تحديدا”.
وتكشف أرقام هيئة سوق الفن البريطاني التأثير الإيجابي لتجارة اللوحات الفنية في الاقتصاد البريطاني، ففي الوقت الذي يواجه الاقتصاد البريطاني أزمة اقتصادية، تمثل سوق اللوحات الفنية نموذجا إيجابيا رغم المنافسة العالمية الشديدة، ليساعد اقتصاد بريطانيا على خلق مزيد من فرص العمل وتحقيق المزيد من العائدات المالية.
وبلغ إجمالي حجم المبيعات في سوق اللوحات والتحف في بريطانيا قرابة 7.7 مليار جنيه استرليني عام 2009، وليخلق هذا القطاع بمفرده 60 ألف وظيفة عمل للاقتصاد الوطني. وبلغت الضرائب المسددة من قبل العاملين في هذا المجال للخزانة البريطانية 911 مليون جنيه استرليني. والأهم أن هذا القطاع الاقتصادي يجذب السياح أو المستثمرين من أصحاب الثروات والقدرات المالية الضخمة، وقد قامت السياحة الثقافية والتي تلعب فيها سوق اللوحات الفنية دورا رئيسيا بمد الاقتصاد البريطاني بنحو 12 مليار جنيه استرليني، ودعم 270 ألف وظيفة.
لكن انتعاش سوق تجارة اللوحات الفنية في بريطانيا لا ينفي حالة القلق المتزايدة لدى العاملين في هذا المجال، فالمنافسة حادة ومتصاعدة، واللاعبون الجدد في السوق يمثلون تحديا حقيقيا لمكانة بريطانيا التاريخية، والأكثر خطورة نجاح هؤلاء في جذب الزبائن التقليديين لبريطانيا.
ويقول المسؤول السابق في الهيئة البريطانية لسوق اللوحات الفنية براون أنطونيوس إن الصينيين هم ”التحدي الأكبر بالنسبة لنا، إنهم يتبنون سياسة هجومية وتوسعية في هذا المجال، فخلال عدد قليل من السنوات أطاحوا بإيطاليا وفرنسا والآن يحتلون المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة وبريطانيا وسيطروا على 19 في المائة من السوق العالمية في عام 2011”.
وأضاف براون لـ ”الاقتصادية” قائلا : ”إن هذه التطورات تؤكد أن السوق تتجه لمزيد من المنافسة الدولية جراء زيادة الطلب، أضف إلى ذلك التغييرات في القوانين المنظمة لانتقال اللوحات الفنية عبر الحدود، وضريبة إعادة البيع، كل هذا يعوق قدرة بريطانيا على المحافظة على وضعها الراهن في الأسواق”.
وتعلق الرسامة ريتا هاورد لـ ”الاقتصادية” على سلوك المستثمر الخليجي في سوق اللوحات الفنية بالقول: ”الخليجيون يتصفون بالتكتم الشديد في هذا المجال الاستثماري.
بصفة عامة تتصف عملية شراء اللوحات الفنية من المزادات أو صالات العرض أحيانا بالتكتم. الأمر بالنسبة للخليجيين مبالغ فيه، فإذا كنت ثريا وتشتري لوحة بعشرة ملايين دولار، فربما تود أن يعرف الجميع ذلك، فهذا يظهر حجم ثروتك ورقيك المعرفي وعنوان لثقافتك، لكنهم لا يقومون بذلك”.
وترى ريس أن هذا التكتم له تأثير سلبي في سوق اللوحات الفنية كسوق للسلع، وتقول: ”إن هذا يدفع لتكهنات غير دقيقة حول هوية المشترين وأحيانا المبالغ التي أنفقت لشراء لوحة من اللوحات، ونتيجة لذلك لا تكون لدينا إحصائيات دقيقة عن حجم السوق وجوانب القوة والضعف، وما إذا كان الطلب سيزداد في الفترة المقبلة أم لا”.
إغراء الخليج دفع صالات مزادات عالمية إلى فتح مكاتب لها في عدد من المدن الخليجية، من بينها دار ”كريستيز” التي أسست مقرا لها في دبي عام 2006، هذه الخطوة اعتبرها البعض دليلا على إدراك العاملين في سوق بيع وشراء اللوحات الفنية أن انتعاش سوق هذا القطاع التجاري في الخليج هو انتعاش دائم، وأن الأمر لا يتعلق بهواة أو رغبات سريعة الزوال.
لكن المحامي إدوارد ماثيو الذي أشرف على توثيق عدد كبير من عمليات بيع وشراء لوحات فنية لرجال أعمال خليجيين قال لـ ”الاقتصادية” إن المشكلة ليس فيما إذا كان الطلب الخليجي على شراء واقتناء اللوحات الفنية سيدوم أم لا، ”المشكلة في غياب تشريعات حقيقية للأمر برمته في منطقة الخليج العربي”.
وقال: ”إن عدم إدراك المشرع الخليجي لأهمية تنظيم هذا القطاع الآن سيؤدي إلى عواقب سلبية في المستقبل ومن أبرزها انتشار الغش والخداع، وهو ما يلاحظ في بعض عمليات البيع والشراء عبر الإنترنت. وهذا سيضعف قوة الدفع الراهنة في استثمار الخليجيين في هذا القطاع، بل وسيعوق من تحول بعض المدن الخليجية، إلى مركز عالمي في هذا المجال”.
المصدر: الاقتصادية